العنوان : نقد قصيدة البردة للبوصيري خطبة مكتوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله والتزموا منهج التوسط والاعتدال واجتنبوا طرفي التفريط والإفراط فالمنهج الوسط هو المنهج الذي ارتضاه الله لهذه الأمة وفضلها به على من سواها من الأمم كما قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكونَ الرسول عليكم شهيدا)
ولا يكون الاعتقاد والقول والعمل وسطاً إلا إذا كان موافقاً للكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فميزان الاعتدال والتوسط ، والغلو والتشدد. والتساهل والتميع. ليس هو أذواق الناس أو عاداتهم أو أهواؤهم إنما ميزانها شرع الله، فما وافقه فهو الاعتدال وما جاوزه فهو الغلو وما قصّر عنه فهو التفريط.
ومن أوسع الأبواب التي دخلها الغلو والمبالغة عند بعض الناس الغلو في مدح خير البرية وأزكى البشرية ، إمام المرسلين وخاتم النبين وسيد ولد آدم أجمعين صاحب الوسيلة والفضيلة و صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود عبدِ الله ورسولِه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم تسليماً.
وإذا ذكر التحذير من الغلو والمجازفة والمخالفات الشرعية في مدح النبي ﷺ كان في مقدمة ما ينبغي التحذير منه والتنبيه عليه قصيدة البردة للبوصيري المتوفى في آخر القرن السابع الهجري وهو العصر الذي شهد غلو التصوّف وبلوغه في الانحراف عن الكتاب والسنة مدى بعيداً.
وقد اشتملت هذه القصيدة الشهيرة على عدد كبير من الأبيات التي تتضمن الشرك الأكبر والشرك الأصغر والبدع والمحدثات والقولَ على الله وعلى رسوله ﷺ بغير علم
فمن ذلك على سبيل المثال:
أنه يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته طالباً منه الشفاعة وطالباً منه جلب النفع ودفع الضر معتقداً أنه ليس له ملاذ إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: “يا أكرمَ الخلقِ مالي من ألوذُ به سواك عند حلول الحادِث العَمَمِ”
وكل مسلم يتلو كتاب الله يعلم أن الله في كتابه الكريم أمرنا أن ندعوه وحده كمال قال تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) فمن دعا غير الله من الأموات والأوثان ونحوها فقد صرف العبادة لغير الله وصرف العبادة لغير الله شرك أكبر.
وكل مسلم يتلو كتاب الله يعلم أن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله وأنه لا أحد يجيب دعوة المضطر إلا هو سبحانه فقال تعالى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}
وفي بيتين آخَرَين نجده في أحدهما يرغّب الناس في طلب الغنى من الرسول صلى الله عليه وسلم بإخباره أنه ما طلب الغنى من الرسول إلا أعطي مسألته، ويا سبحان الله هل الغنى إلا من الله؟! وهل النعم إلا من الله؟! وإذا كان أحد يملك الغنى والنعم غيرُ الله فكيف يقول الله تعالى {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}
وفي البيت الآخَر يرغّب الناس في اللجوء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي بدعائه والاستغاثة به عند نزول الكُرَب والمشكلات فيخبر عن نفسه بأنه ما أصاب ضيم أي من مرض ونحوه والتجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا تحقق له مقصوده، وهذه دعوة منه إلى عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله وجعله نداً له في الربوبية والألوهية. وقد اغتر بشعره جماعة من جهال الشعراء والأدباء فكتبوا قصائد يتشبهون فيها بصاحب هذه القصيدة يطلبون فيها من الرسول صلى الله عليه وسلم شفاء أمراضهم وتفريج كرباتهم ومنهم من يطلب من الرسول أن يعالج مشكلات الأمة.
ومن غلوه الفاحش دعواه أن النبي ﷺ له مِلْكُ الدنيا والآخرة وعلمه محيط بما في اللوح المحفوظ فيقول “فإن من جودِك الدنيا وضرتَها ومن علومك علمَ اللوح والقلم” فإذا كانت الدنيا والآخرة لمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوجدها وتفضل بها فما معنى قول الله تعالى (وإنّ لنا للآخرةَ والأولى) و كيف يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الغيب والله يقول (قل لا يعلم من في السموات والأرضِ الغيبَ إلا الله).
ومن الكذب على الله في هذه القصيدة دعواه أن الله تعالى لم يخلق الدنيا إلا من أجل محمد ﷺ. ووجهُ الكذب في هذا القول أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وكذلك ما خلق الله محمداً ﷺ إلا من أجل عبادة ربه ولذا أمره بها حتى يموت فقال له تعالى (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
ومن كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواه أن له ذمةً وعهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يُعَذّب لأن اسمه محمد على اسْمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فمتى التقى بالنبي ﷺ وقد ولد بعد موته ﷺ بأكثر من ستمائة سنة؟ وأين الحديثُ الصحيح عن رسول الله ﷺ أن مَن اسمه محمد فإنه لا يعذب على معاصيه؟.
ومن كذبه على الأنبياء والمرسلين دعواه في هذه القصيدة أن جميع الأنبياء التمسوا وطلبوا منه أن يغترفوا من بحر علمه وفضله ويرتشفوا من دِيمته وسحابه؟ فكيف يلتقون به ويطلبون منه أن يتعلموا منه وقد ماتوا قبله بمئات وألوف السنين.
ومن الشرك الأصغر الذي اشتملت عليه هذه القصيدة القسم بالقمر في قوله “أقسمت بالقمر المنشق” ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك”.
ومن ضلالات قصيدة البُرْدة دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كانت معجزاته مساويةً لقدره لكان اسمه يحيي الموتى فيقول ” لو ناسبت قَدْرَه آياتُه عِظَماً. أحيا اسمُه حين يُدعى دارسَ الرِّمم” ومعنى ذلك _لو عقل_ أن الله هضمه حقه وقدره فلم يعطه من الآيات والمعجزات والبينات ما يستحق ففيه اعتراض على الله وفيه تنقص لما أيد الله به نبيه من الآيات. وأعظمُها وأجلُّها كتاب الله تعالى.
نسأل الله تعالى لزوم الحق والعدل في الأقوال والأفعال واجتناب ما يسخطه من البدع والأهواء والضلال.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن حب النبي صلى الله عليه وسلم فرض محتم على كل مسلم ومسلمة بل يجب أن يكون حبه مقدماً على حب الإنسان لنفسه فضلاً عن غيره، وعلامة حبه طاعتُه ولزومُ أمره واجتنابُ معصيته ونهيه. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه وعن الغلو في مدحه فقال صلى الله عليه وسلم «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ» رواه البخاري. وعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَيِّدَنَا، وَابْنَ سَيِّدِنَا، وَيَا خَيْرَنَا، وَابْنَ خَيْرِنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَا رَفَعَنِي اللَّهُ» رواه أحمد.
فانظر كيف دعا النبي ﷺ أمته إلى الاقتصاد في مدحه وفي الثناء عليه ونهاهم عن الغلو والمجازفة. وأما صاحب البردة فإنه يقول للناس امدحوا رسول الله بما شئتم، واحذروا فقط أن تقولوا عنه ابن الله، وفي ذلك يقول: “دع ما ادّعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم”
عباد الله: إن الغلو والمجازفة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الشرك بالله لأن الجهال بالتوحيد إذا سمعوا من يقول لهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينفع ويضر ويجيب المضطر ويكشف الكربات ويغفر الزلات عبدوه مع الله، وإنما ذكر الله لنا غلو النصارى في عيسى واليهود في عُزير حتى لا نغلو في النبي ﷺ أو في غيره ، وحذر النبي ﷺ أيضا من الغلو فقال (إياكم والغلوَّ في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين) فمن كان صادقاً في حبه فليمتثل أمره وليجتنب نهيه قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)
معاشر المؤمنين صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى اللهم ألبسهم ثياب الصحة والعافية واستعملهم في طاعة ونصرة دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
Bien
جزاك الله خيراً ونفع بك الإسلام والمسلمين .