موقع د. علي بن يحيى الحدادي

أما بعد:

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث أمته على ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة من العقائد الصحيحة والعبادات المباركة والأخلاق الفاضلة ونهاهم عما يضرهم في دنياهم وأخراهم أيضاً. وذلك من شدة حرصه عليهم صلوات الله وسلامه عليه كما قال تعالى (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [التوبة: 128]

ومما نهى عنه صلى الله عليه وسلم أمته الكذب والمراء ومما حثهم عليهم تحسين أخلاقهم، وضمن لهم إذا هم اجتنبوا ما كرهه لهم وفعلوا ما أمرهم به بأن لهم قصوراً في الجنة على حسب أعمالهم

وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك الـمِراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحاً ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه أبو داود من حديث أبي أمامة.

فقوله صلى الله عليه وسلم (انا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا) أي أنا ضامن بقصر عظيم في أسفل الجنة لمن ترك المراء وإن كان الحق معه والمراء هو المجادلة والمخاصمة التي لا نفع فيها ولا مصلحة من ورائها، فليس فيها إحقاق حق ولا إبطال باطل إنما مقصود المماري والمجادل أن يُسكت خصمه وأن تكون له الغلبة عليه، وأن يُري الناس أنه يَغلِب مَن يخاصم.

ومن الحكمة في الحث على ترك المماراة أنها تضيع الوقت وتورث الضغينة وتفسد المودة، وإذا كانت في أمر ديني فربما أوقعت المتمارين في القول على الله بغير حق، وجرّت إلى تفسير الآيات والأحاديث على غير معانيها الصحيحة، أو جرّت إلى تكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما الرد على أهل البدع وأصحاب الأفكار الفاسدة بالعلم والحجة فليس من المماراة المذمومة بل هو من الجهاد المحمود إذا قام به أهله.

فعلى المسلم أن يدع كثرة المجادلات والخصومات سواء في مجالسه أو عبر وسائل التواصل حين لا يكون منها ثمرة ولا فائدة فالعمر نفيس وما مضى منه لا يعود والموفق من شغل وقته بما ينفعه في دينه أو دنياه.

وقوله صلى الله عليه وسلم (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً) أي يضمن النبي صلى الله عليه وسلم بقصر عظيم في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان من باب المزاح.

ففي هذه الجملة الكريمة الحث على قول الصدق وتحري الصدق والابتعاد عن الكذب في كل الأحوال ولو كان في الحال التي يتساهل فيها كثير من الناس في الكذب وذلك حين يتمازحون.

وذلك أن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. والكذب َ يهدي إلى الفجور والفجورُ يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.

وأما الخصلة الثالثة ففيها الحث على محاسن الأخلاق وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم لمن حسن خلقه بقصر عظيم في أعلى الجنة.

وهذا يدل على عظم شأن حسن الخلق وكبير منزلته فالجنة درجات بعضها فوق بعض وكلما ارتفعت الدرجة كان النعيمُ أكبرَ وأفضلَ فوسط الجنة أفضل من ربضها أي أسفلها وأعلى الجنة أفضل من وسطها.

فحسن الخلق يكون مع الله بحسن عبادته ومع الخلق بأن تبذل لهم المعروف وتكف عنهم الأذى وتلقاهم بوجه طليق وتعاملهم بمثل ما تحب أن يعاملوك به.

عباد الله: هذا رسولكم صلى الله عليه وسلم يضمن لأهل هذه الخصال السامية بقصور عظيمة في الجنات العالية. فأين المشمرون لها. الساعون إليها. الصادقون في خِطبتها.

جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن الحديث السابق يؤكد على حرص الشريعة الإسلامية على سلامة القلوب والائتلاف والمودة بين المؤمنين كما قال تعالى (إنما المؤمنون إخوة) وذلك من خلال حثه على ترك المماراة لأنها توغر الصدور وتفسد ذات البين.

ويؤكد أيضاً على حرص الشريعة على الصدق وترك الكذب فإنها إذا نهت عن الكذب في حال المزح فالنهي عنه في حال الجد أولى وآكد. إن الكذب من شُعب النفاق، ومن أسباب عذاب القبر ومن أسباب عذاب النار، كما أنه من أبرز صفات المنافقين كما قال تعالى عنهم {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] وفي الحديث (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) متفق عليه.

ويؤكد الحديث أيضاً على المكانة السامية التي يتبوؤها حسن الخلق في الإسلام إذ أعد الله لأهله الدرجات العلى في الجنة.

والأخلاقُ السئية هي الأخلاق التي جاء ذمها في القرآن والسنة.  فاجتبنبوها وابتعدوا عنها. والأخلاق الحسنة هي الأخلاق التي جاء مدحها في الكتاب والسنة. فتعلموها وتخلقوا بها قدر الاستطاعة وابتغوا بها ما عند الله تنالوا بها خير الدنيا والآخرة.

معاشر المؤمنين صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين…الخ