العنوان : التحذير من المداهنة في إنكار المنكرات للأغراض الحزبية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شأن عظيم به يكثر الخير ويقل الشر ويستجاب الدعاء ويأمن الناس من نزول العقوبات العامة وبه يرفرف الأمان بظلاله الوارفة على المجتمع وبه تهب رياح العزة والنصر والسؤدد والتمكين قال تعالى {ولَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} وكان من أسباب هلاك بني إسرائيل أنهم فرطوا في هذا الواجب العظيم ففشت فيهم المنكرات من الشرك والبدع والفجور والتحايل على شرع الله حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض وسلط بعضهم على بعض وسلط عليهم ما شاء من جنوده ومن أصناف وألوان عقوباته والعياذ بالله. فالواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح والدعوة إلى الخير والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى وترك التعاون على الإثم والعدوان. عباد الله: إن المنكر هو ما حرمه الله تعالى أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم فما قام الدليل من الكتاب والسنة على حرمته فهو حرام إلى قيام الساعة. سواء صدر المنكر من شريف أو ضعيف من عالم أو جاهل من صالح أو فاجر فليس في الإسلام حل السرقة إذا صدرت من زيد وحرمتها إذا صدرت من عمرو فالجميع في حكم الله تعالى سواء لهذا كان الله تعالى يحرم على رسوله صلى الله عليه وسلم ما يحرم على أمته إلا ما خصه به فنهاه عن الشرك مع عصمته منه كما قال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وأمره ربه ونهاه فقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ومع كونه خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إلا أنه كان أخشى الناس لله وأتقاهم مسارعاً لما أمر به مباعداً لما نهي عنه له كما قال صلى الله عليه وسلم (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ) فالتقوى والصلاح لا تجعل معصيةَ التقي الصالح طاعةً ولا قربةً. بل من كانت حجة الله عليه أكبر كانت المؤاخذة في حقه أشد كما ورد في شأن نساء النبي رضي الله عنهن قال القرطبي: “وَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ- أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتِ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتِ الْعُقُوبَاتُ”. وإن مما يؤسف له أشد الأسف أننا أصبحنا نرى منهجاً متبعاً وقاعدة مطردة عند بعض الناس وهي أنه إذا صدر المنكر الصريح الذي لا يختلف اثنان في كونه منكراً من تقرير بدعة أو مجاهرة بمعصية قولية أو فعليه نظروا فإن كان هذا المنكر صدر ممن بينه وبينهم توافق في منهج أو مصلحة مشتركة تواطؤوا على تزيين عمله والبحث له عن التأويلات ليظهر ذلك المنكر في صورة العمل المشروع وتواطؤوا على تسفيه من ينكر ذلك المنكر.. وإن صدر ذلك المنكر ممن ليس لهم بشريك في منهج أو ليست بينهم وبينه مصلحة مشتركة أو ممن يختلفون معه أو كانت مصلحتهم تقتضي استغلال ذلك المنكر في التحريض والتهييج والإثارة أنكروا بكل ما أوتوا من قوة وسخّروا كل وسيلة إعلامية ممكنة بل قد يتجاوزون ذلك إلى التجمهر وحشد الحشود وتجاوز الحد المشروع في الإنكار.
ولا شك أنه منهج خطير له آثار مدمرة وأعظمها نقل الناس من المعاصي إلى البدع فإن الناس بحكم الضعف البشري يقعون في المعاصي والأخطاء ولا سيما الشهوانية وهم يعلمون أنهم مخطئون مذنبون يؤنبهم الضمير ويحدثون النفس بالتوبة، لكن إذا زُين لهم ذلك باسم سماحة الدين ويسره أو باسم مصلحة الدعوة أقبلوا عليه مستحلين له بل متقربين به إلى الله والعياذ بالله وهذا أشد بكثير من عمل المعصية مع اعتقاد كونها معصية.
ومن آثار هذا المنهج المدمر أنه يسبب الحيرة والالتباس في الحق لدى عوام الناس لما يرون من التناقض الصارخ فمثلاً: كيف يُعقل أن يصدر من شخص واحد مدحُ امرأة بأنها متحجبة محتشمة ووصف امرأة أخرى بأنها متبرجة سافرة وهي تلبس نفس حجاب المرأة الأولى. فإما آن تكونا محجبتين معاً وإما أن تكونا سافرتين متبرجتين معاً؟ أليس كذلك. وحين يرون الحرب الشرسة على اختلاط في حفل أو سوق ثم يرون أولئك المنكِرِين أنفسهم مشاركين في اختلاط مثله أو أشد منه. إن كل عاقل سيقول دين الله واحد وأرض الله واحدة والناس في حكم الله سواء فإما أن يكون الاختلاطان معاً حراماً وإما أن يكونا معاً حلالا
وحين يرون الحرب الشرسة على العلمانية والحكم بغير ما أنزل الله ثم يرون ذلك المنكِر بعينه يمجد ويناضل عن نظام علماني فسيقولون ويقول كل منصف كيف تكون العلمانية كفراً وحراماً إذا حكم بها فلان وتكون حلالا بلالا إذا حكم بها فلان فإما أن تكون حلالا لهما وإما أن تكون حراما عليهما.
إخوة الإيمان: أليس مآلَ هذا المنهج وعاقبتَه هبوبُ عواصفَ التشكيك التي تفقد كثيراً من الشباب الناشئ وتفقد عوام المسلمين الثقة بمصداقية المنتسبين إلى الدعوة والعلم والدين إلا من رحم الله. أليس من عواقبه أن يتشكك بعض الناس – مع ضعف الإيمان واليقين- في مصداقية الدين نفسه بسبب هذه الجنايات والتناقضات والتقلبات في الدين. فليتق الله من يسلك هذه المسالك ولتكن حرمات حدود الله مقدمة على حرمات الأحزاب والمناهج والأفراد. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي المتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قائدُ الغر المحجلين وسيدُ ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وإن من تقوى الله تعالى قولَ كلمة الحق والشهادةَ بالحق ولو على النفس قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قال ابن كثير : “أَيْ: اشْهَدِ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ وَإِذَا سُئِلت عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَضرةً عَلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مَنْ كُلِّ أَمْرٍ يَضِيقُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ، فَلَا تُراعهم فِيهَا، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنَّ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ” اهـ. وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال ابن سعدي: ” أي: لا يحملنكم بغض {قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق. {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى” اهـ معاشر المؤمنين صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.. الخ
جزاك الله خيراً شيخنا الحبيب