العنوان : التحذير من التساهل في اتهام الناس بغير حجة
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوا الله فيما تقولون وتفعلون وفيما تأتون وتذرون ، واعتنوا غاية العناية بألسنتكم فإن اللسان أشد الجوارح خطراً، لأن أكثر الناس حصائد السنتهم في جهنم والعياذ بالله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (وهل يَكب الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم) رواه الترمذي ، أي كما تحصد المناجلُ الزرع فكذلك تحصد الألسنُ الناسَ فترميهم في جهنم والعياذ بالله، وذلك أن أسباب دخول النار عن طريق اللسان كثيرة ككلمة الكفر والشرك وكالغيبة والنميمة وكالسب والقذف، وكالقول على الله بغير علم إلى غير ذلك من معاصي اللسان وفسوقه وفجوره.
وإن مما يتساهل فيه كثير من الناس وهو عند الله عظيم الحكم على الناس بالكفر أو الابتداع أو الفسوق أو الإخبار عنهم بذلك فقد قال تعالى في شأن قصة الإفك (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
فهذه الأحكام أو نقل هذه الأخبار ما لم يكن مبنياً على علم ووقعت في محلها الصحيح وإلا كان صاحبها متوعداً بوعيد شديد، ولا ينفعه تساهله أو ظنه أن الأمر ليس بتلك الدرجة من الخطورة والشناعة عند الله قال صلى الله عليه وسلم (أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه) متفق عليه واللفظ لمسلم.
فقف نفسك قبل أن تقول عن فلان بأنه مرتد أو مبتدع أو فاسق أو غيرها من الصفات المذمومة وحاسبها. اسأل نفسك قبل أن تتكلم هل عندك بينة وحجة تحاج بها عن نفسك يوم الوقوف بين يدي الله أم لا؟ فإن الكلام اليوم سهل يسير ولكن الحساب غداً شاق عسير.
إن الكلمة ربما تصدر من شخص لا يلقي لها بالاً ولكن يترتب عليها سفك دم حرام، أو يترتب عليها تدنيس عرض طاهر بريئ. أو يترتب عليها حرمان جمهور كبير من الناس من علم غزير وخير كثير، فتقضي على دروسٍ نافعة ومجالسَ معمورة بالكتاب والسنة والمتكلمُ فيه بري مما قيل فيه.
فالمسؤولية عظيمة يا عباد الله عامة ويا طلبة العلم خاصة ، وكلما كان صاحب الكلمة له مقام كبير في الصدور كانت المسؤولية عليه أعظم.
وكلما كثرت الفتن والأهواء والاختلافات كلما كان التثبت والتبين آكد قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصحبوا على ما فعلتم نادمين)
فخبر الكاذب مردود وخبر الفاسق يُتوقف فيه حتى يُتأكد من صدقه أو كذبه، وخبر العدل حكمه القبول ولكن قد يحتف بخبره من القرائن والأمارات ما يستوجب الفحص عنه والتثبت منه كأن يكون بينه وبين من يخبر عنه عداوة أو بغضاء، أو منافسة في أمر، أو عرف عنه التسرع في النقل. أو عرف عنه عدم الدقة في نقله أو تضمن النقل أمراً مستغرباً عن المنقول عنه أو غير ذلك من الأسباب الداعية للفحص والتثبت.
وحين طعن المنافقون في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أُذن أي يصدق كل من يخبره بشيء دافع الله عن نبيه فقال (قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي أنه يميز بين الصادق والكاذب ويصدق من يستحق التصديق من المؤمنين. فالتمييز بين النقلة والمخبرين من الصفات الحميدة ومن الصفات اللازمة لمن يريد إصدار الأحكام على الناس على ضوء هذه الأخبار.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واحذروا مزالق الألسن وفسوقها ومعاصيها، وإن من مزالقها الخطيرة السعي في الأرض بالإفساد بين الناس فقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم النمام بعدم دخول الجنة فقال صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة نمام) رواه مسلم. كمن يسعى للإفساد بين الزوجين أو الأب وابنه والصديق وصديقه ونحو ذلك، ومن صوره الخطيرة المؤثرة في باب المسيرة العلمية والدعوة إلى الله السعي للإفساد بين رؤوس أهل العلم أو بين العالم وتلاميذه من باب الهوى والحسد والتساهل بشأن الظلم والعدوان.
هما طريقان يا عباد الله طريق الإصلاح وطريق الإفساد
طريق الإصلاح فيه السعادة والرفعة وتكثير الخير وتقليل الشر، والخيرات العاجلة والآجلة
وطريق الإفساد فيه الحسرة والندامة وتعطيل الخير وتقليله وتنمية الشر وتكثيره، والعقوبات العاجلة والآجلة.
قال صلى الله عليه وسلم “ألا أخْبِرُكم بأفْضَلَ مِنْ درَجَةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقَةِ؟ “.قالوا: بَلى؟ قال: “إصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ؛ فإنَّ فسادَ ذاتِ البيْنِ هِيَ الحالِقَةُ”. د. ت وصححه.
فيا عجباً ممن يترك ما هو أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ويختار ما يحلق دينه ويستأصل حسناته ويكثر سيئاته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ({لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 114، 115]