العنوان : هكذا فلنستقبل رمضان
الخطبة الأولى
أما بعد:
فها نحن في أواخر شهر شعبان قد هبت تباشير رمضان وأقبلت نسائمه وأخذت النفوس تلمس مشاعر الفرحة والسرور بمقدم هذا الضيف الكريم الضيف الحبيب إلى نفس كل مؤمن ومؤمنة.
وحق لكل مسلم أن يفرح بشهر رمضان فإن الفرح بنعمة الله وبفضله هو الفرح المشروع الذي أمر الله به (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
إن المؤمن يفرح بشهر رمضان لكونه أعظم الشهور عند الله من حيث مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات والعتق من النار واختصاصه بليلة هي خير من ألف شهر.
أما الفرح به لكونه شهر المطاعم والمشارب ونوم النهار وسهر الليل على المكروهات والمحرمات واللغو والسيئات فذلك فرح أهل الغفلة وضعف الإيمان والقلوب المريضة.
لذلك يختلف الناس في استقبال رمضان وطريقة استعدادهم له بحسب نوعية نظرتهم إليه، فالذين عظم إيمانهم وعظمت رغبتهم فيما عند الله واستحضروا الرحلة إلى الآخرة هؤلاء هم الذين وطنوا أنفسهم على استغلاله بما أوتوا من قوة وتوفيق على التقرب فيه إلى الله بالقُرَب الصالحة
لذلك يحدثون أنفسهم بصيام نهاره إيماناً واحتساباً وبقيام ليله إيماناً واحتساباً لأنهم يتذكرون قوله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقد من ذنبه)
يحدثون أنفسهم بالاستكثار من قراءة القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار مع تدبر وتفهم لأنهم يتذكرون أن رمضان شهر القرآن كيف لا والله يقول (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) ويتذكرون أن جبريل كان ينزل في الليل كل ليلة من رمضان فيدارس النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله.
يحدثون أنفسهم من المحسنين المطعِمين بتفطير الصائمين وإعانة المساكين وإغاثة الملهوفين فهو شهر البر والعطاء والصدقات والإحسان تأسياً بنبيهم صلى الله عليه وسلم وهو مضرب المثل في الجود والكرم ولا سيما في رمضان حيث يكون أجود بالخير من الريح المرسلة صلوات الله وسلامه عليه.
يحدثون أنفسهم بالاعتكاف في العشر الأواخر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأزواجه من بعده وتخففا من الدنيا وعلائقها وشهواتها وغفلاتها وتفرغا للذكر والدعاء والاستغفار وقراءة القران وتحرياً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر التي هي خير من ثلاث وثمانين سنة ليس فيها ليلة قدر.
يحدثون أنفسهم بأداء العمرة في هذا الشهر لأنهم يتذكرون قوله صلى الله عليه وسلم (عمرة في رمضان تعدل حجة) وفي رواية (تعدل حجة معي)
يحدثون أنفسهم بإخراج صدقة الفطر في آخر الشهر امتثالا لأمر الله ورسوله وتطهيرا لأنفسهم من اللغو والرفث وجبراً لصيامهم مما عساه أن يكون وقع فيه من خلل ومواساة للفقراء والمساكين حتى يشهدوا العيد فرحين مستبشرين لا جياعاً منكسرين.
يحدثون أنفسهم بأن يصلحوا ذات بينهم ويضعوا حداً للقطيعة لمن قاطعوهم السنين أو الشهور أو الأيام استجابة لنزغات الشيطان وخصومات الدرهم والدينار والغضب للأولاد والنسوان لأنهم يتذكرون أن هذا الشهر شهر مغفرة الذنوب الصغار والكبار وشهر الفوز بالجنة والعتق من النار. والقطيعةُ لأجل الدنيا من أسباب الحرمان من المغفرة ومن أسباب الحرمان من رفع العمل الصالح وعرضه على رب الأرباب سبحانه وتعالى.
يحدثون أنفسهم بأن يتوبوا وينيبوا ويصلحوا ما بينهم وبين ربهم فمن لم يتب في رمضان فمتى يتوب ومن لم ينب في رمضان فمتى ينيب ومن لم يرجع إلى ربه في رمضان فمتى سيرجع لقد هيأ الله فرصة التوبة والإنابة في هذا الشهر ليسرع إليه عباده صالحهم وطالحهم بَرُّهم وفاجرهم لذلك يصفد مردة الشياطين ويفتح ابواب الجنة ويغلق أبواب النار كل ذلك ليكون عونا للعباد على أنفسهم وأهوائهم.
يحدثون أنفسهم أن يحفظوا شهرهم كله من المعاصي والفسوق سواء في ليلهم أو نهارهم لأنهم يعلمون ويتذكرون ويستحضرون أن الصوم لا يقف معناه عند ترك الأكل والشرب والمفطرات وإنما يتجاوز ذلك إلى ينضم إليه ترك المعاصي كما قال صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ويتذكرون قوله تعالى وهو يبين لهم حكمة الصوم وسره الأكبر (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) نعم أيها المؤمنون شرع الصوم ليكون مدرسة من مدارس التقوى بفعل الأوامر واجتناب النواهي في العلن والإسرار وفي الليل والنهار وفيما يوافق النفوس أو يعارض شهواتها
فما أحسن من كانت هذه نظرته لهذا الشهر ومن كان هذا سبب فرحه بهذا الشهر و من كان هذا عزمه الذي يعزم أن يكون عليه في هذا الشهر .
أسأل الله أن يبلغني وإياكم شهر رمضان وأن يرزقنا صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيه إنه جواد كريم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإنه إذا كان يوجد من ينظر إلى رمضان النظرة الصحيحة الصائبة التي تنظر بنور الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وهديهم فإنه يوجد أيضاً من ينظر إلى رمضان نظرة سيئة والعياذ بالله على تفاوت بينهم في مدى السوء وشدة الانحراف، فمنهم أولئك الذين وطنوا أنفسهم على تقضية نهاره في النوم غير مبالين بأداء ما فرض الله عليهم من الصلوات وغير مبالين بما أضاعوه من نفيس الأوقات.
ووطنوا أنفسهم على تقضية ليله في المعاصي والسيئات فهاهم يستعدون له بأنواع القنوات لينْهَلُوا ويَعُلّوا من سموهما التي تهدم العقيدة الصحيحة والأخلاق المستقيمة وتحث بلسان حالها أو مقالها على الفسوق والفجور والعصيان.
ومنهم الموطِّن نفسه على التسكع في لياليه في الأسواق لا لغرض صحيح وإنما ليعصي الله بعينه ولسانه وجواله.
ومنهم الموطِّن نفسه على تقضية ليله بالسمر والسهر على اللعب واللهو بأمور قد تكون مباحة أو مكروهة كلعب الورق ونحوه ولكن حتى على القول بعدم حرمتها هل يليق أن تُضيَّعَ تلك الليالي الشريفة في مثل هذه الترهات.
فاستعدوا لرمضان أحسن استعداد واحذروا المبالغة في المشتريات من الأطعمة والأشربة التي تنزف أموالكم ثم يكون مصير أكثرها إلى المزابل قال تعالى(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).
وارحموا نساءكم فما أكثر ما تذهب أوقاتهم في رمضان في المطابخ طلباً لتنوع الأصناف ومبالغة في إرضاء البطون.
وخذوا على أيديهن حتى لا يكثرن الخروج إلى الأسواق في ليالي هذا الشهر فإذا لم يحزم الرجل تفلتتِ المرأة وذهبت أوقاتها في الأسواق شراء وتبديلاً أو ذهاباً وجيئة دون غاية نافعة.
وخذوا على أيديهن فلا يخرجن إلا لحاجة وإذا خرجنَ خرجن غير متطيبات ولا متبرجات بزينة ولا سيما في آخر الشهر فما أكثر المناظر التي تبكي لها الفضيلة وتذرف لها عيون العفة والحشمة.
نسأل الله أن يحفظ أعراضنا وأخلاقنا ونساءنا من كل سوء كما نسأله أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن نزغات الشيطان.
ثم اعلموا أن خير الحديث كتاب الله...
بارك الله فيك شيخنا وجزاك الله خيرا