العنوان : من آداب الدعاء وأحكامه
من آداب الدعاء
أما بعد:
فإن الدعاء من أجل العبادات وأعظمها شأنا حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة.
وذلك أنه يجتمع في الدعاء من صور العبودية لله ما لا يكاد يجتمع في غيره من إظهار الضعف والفاقة والحاجة إلى الله ومن إظهار الذل والخشوع والخضوع لجلاله ، ولما يستلزمه من إيمان الداعي بأن لله عليم سميع قريب مجيب الدعاء ومن أنه سبحانه بيده مقاليد كل شيء فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما فيه من الدلالة على حسن الظن الداعي بالله والطمع والرجاء في فضلة والرهبة والخشية من أليم عقابه إلى غير ذلك مما تقصر عنه العبارة.
ولما كان الدعاء عبادة والعبادة مبناها على التوقيف أي لا تؤدى هذه العبادة إلا على ضوء ما شرع الله تعالى كان حرياً بالمسلم أن يتفقه في أحكام الدعاء حتى يدعو ربه دعاء صحيحاً تكون عاقبته القبول والاستجابة وجزيل الإثابة ولئلا يدخله ما يغضب الله فيرده الله على الداعي دون استجابة بل وينضاف إلى ذلك أن يكتب عليه إثم المخالفة لحكم الشرع ووزرها والعياذ بالله.
فمن أحكام الدعاء حتى يكون دعاء صالحاً:
أولاً: الإخلاص لله تعالى فلا يقصد به الداعي رياء ولا سمعة وإنما يريد به وجه الله وهذا شرط لقبول جميع الأعمال قال تعالى (فاعبد الله مخلصا له الدين) وقال تعالى (فادعوا الله مخلصين له الدين).
والرياء قد يدخل في الدعاء ولا سيما في الدعاء الجهري كدعاء القنوت في رمضان وقنوت النوازل فيزين الشيطانُ للداعي أن يحسّن صوته وأن يتظاهر بالخشوع ورقة القلب والبكاء حتى يمدحه الناس ويكون له مكانة في قلوبهم وهذا من مداخل الشيطان التي يتسلل منها إلى قلب الداعي ليفسد عليه عبادته.
ومن الإخلاص في الدعاء أن لا يدعى إلى الله تعال فلا ينزل المسلم حاجته بضريح أو ولي أو غائب أو جن أو غير ذلك من المألوهات من دون الله لا في حال الرخاء ولا حال الشدة. وقد كانت الجاهلية الأولى يشركون بالله في الرخاء فإذا نزلت بهم الشدائد والكربات أخلصوا الدعاء لله (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) ولكن يوجد اليوم من ينتسب إلى الإسلام وهو يشرك في الدعاء كثيراً من الأنداد والشركاء في حال الشدة فضلاً عن حال الرخاء والعياذ بالله. فيدع مالك الملك ومدبر الأمر ومجيب دعوة المضطر ويجأر بصوته يا حسين يا وعلي يا سيدي فلان يناديهم كما ينادي ربه والعياذ بالله فهذا من الشرك الذي بعث الله النبيين والمرسلين لمحاربته وإبطاله.
ثانياً: أن يحرص الداعي على أن يستفتح دعاءه بالحمد والثناء على الله ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فعن فضالة بن عبيد قال بينا رسول الله قاعداً إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل علي ثم ادعه) ، ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أيها المصلي ادع تجب) رواه الترمذي وحسنه.
ثالثا: ينبغي للداعي أن يتحرى جوامع الدعاء أي الكلمات القلية التي تجمع المعاني الكثيرة وأن يجتنب ما أمكن التفصيل والتكلف في ذلك فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (أنه يتحرى الجوامع من الدعاء) وخير الدعاءِ الدعاء المأُثور الوارد في الكتاب والسنة فإنه جامع لطلب الخير والاستعاذة من الشر سالم من المحاذير التي تدخل كثيرا من الأدعية التي ينشؤها الداعي من عند نفسه أو يقلد فيها غيره.
رابعاً: من آداب الدعاء اجتناب السجع المتكلف والمقصود بالسجع اتفاق أواخر الكلمات في كل جملة في حروفها ووزنها فإنه يشغل الداعي عن حقيقة الدعاء ويصرف همه إلى اختيار الكلمة المناسبة في الجملة التالية قال ابن عباس لمولاه عكرمة: (وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك) أي لا يفعلون إلا اجتناب السجع. أما ما جرى على اللسان بدون قصد ولا تكلف فلا حرج فيه وعليه يحمل ما ورد في الأدعية النبوية.
خامساً: من آداب الدعاء الذي يكون في صلاة الجماعة كالقنوت في النوازل وفي التراويح أن يكون مختصراً بعيداً عن الإطالة التي تشق على الناس وتؤدي إلى الفتور والملل قال الشيخ ابن باز رحمه الله (فالأفضل للإمام في دعاء ختم القرآن والقنوت تحري الكلمات الجامعة وعدم التطويل على الناس ..ثم قال ولا يتكلف ولا يطول على الناس ولا يشق عليهم) اهـ
ومن رأى دعوات النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر التي علمها للحسن ودعاءه في قنوت النوازل يجد أنه دعوات تتركب من جمل مختصرة مباركة جامعة وافية بالمقصود وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
سادساً: من آداب الدعاء أن يجزم في الطلب والمسلة ولا يعلقه على المشيئة لحديث (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني أن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له) متفق عليه.
سابعاً: الإلحاح في الدعاء بالتضرع والصدق وعدم استبطاء الإجابة عن ابن مسعود (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا دعا ثلاثا) وفي حديث أبي هريرة ( لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل . قيل يار سول الله ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت قد دعوت فلم أر يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)
ثامناً: أن يرفع يديه إلى حذو منكبيه علامة على التذلل لجلال الله وعظمته. لكن رفع اليدين من الخطيب يوم الجمعة غير مشروع ورفع المأمومين أيديهم في التأمين على دعاء الخطيب أيضاً غير مشروع إلا إذا استسقى في دعائه فيرفع ويرفعون. إنما الذي يشرع أن يشير الخطيب وحده في دعائه بإصبع واحدة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم منكل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
ومن آداب الدعاء المهمة أن يجتنب الاعتداء في الدعاء قال تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) والاعتداء في الدعاء أحيانا يكون في ألفاظه وأحيانا يكون في معناه وأحيانا يكون في صورة أدائه فمن الاعتداء الدعاء التفصيل في سؤال الجنة والاستعاذة من النار وذلك بسرد أنواع من نعيم الجنة وأنواع من صور عذاب النار وقد سمع سعد بن أبي وقاص بعض ولده وهو يسال ربه الجنة ونعمها استبرقها ويعوذ به من النار وسلاسلها وأغلالها فأنكر عليه وقال سمعت رسول الله يقول (إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وقرأ هذه الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وإن بحسبك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك م النار وما قرب إليها من قول وعمل) حم
ومن صوره أن يقلب الداعي الدعاء إلى موعظة بذكر تفاصيل ما يجري عند نزع الروح وفي القبر وفي عرصات القيامة والحساب والصحف والميزان
أو يفصل ما يجري في المصائب والحروب عند النوازل من القصف بالطائرات والدبابات والرشاشات وما يحصل من القتل والهدم والجوع والعري والخوف والرعب ونحو ذلك مما يندرج في التفصيل المذموم شرعاً.
وإذا تأملنا في حقيقة الباعث على هذا النوع من الأدعية فستجد أن المقصود به إثارة حماس المأمومين وتهييجُ عواطفهم وإشغالُهم بما يسمى بالملفات الساخنة من قضايا المسلمين وفي هذا تحريف لمقاصد الدعاء وخروج عنها فالدعاء مقام ضراعة وطلب للإجابة وليس وسيلة تستغل لمقاصد الداعي ومآربه.
ومن صور الاعتداء في الدعاءِ الدعاء بالهلاك على جميع الكفار واليهود والنصارى وهذا مخالف لحكمة الله وقدره وإنما يكون الدعاء على المعتدين منهم كما فعل عمر رضي الله عنه في دعائه.
ومن الاعتداء في الدعاء أن يدعو الداعي على ولاة أمور المسلمين تصريحا أو تلميحا وقد كان كبار الصحابة ينهون عن الدعاء على ولاة الأمور وإن جاروا وظلموا كما في حديث أنس وفي غيره من الآثار الكثيرة.
ومن صور الاعتداء في الدعاء أن يلحن الداعي دعاءه ويرتله كما يفعل بالقرآن الكريم وقد أفتت اللجنة الدائمة بأن ترتيل الدعاء غير مشروع وإنما يدعو الداعي بصوته المعتاد لأن تشبيه الدعاء بالقرآن لم يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.
فاحرص يا عبد الله على الاستكثار من الدعاء واحرص على أن لا يكون في دعائك شيء مما يخالف الشرع فيكون سبباً للإثم ولرد الدعاء.
ثم اعلموا أن خير الحديث كتاب الله ...الخ