إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
أما بعد:
فإن الحج عبادة عظيمة افترضه الله على العباد مرة واحدة في العمر وما زاد على ذلك فهو نافلة قال تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام.
والحج وإن كان فيه مشقة إلا أن فيه من الأجور العظيمة والمنافع الجسمية ما تتلاشى معه كل متاعبه بل تنقلب لذة وفرحاً واغتباطاً.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه ومن حج كما أمر الله رجع طاهراً نقياً من الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم "من حجَّ فلم يَرفُثْ، ولم يَفْسُقْ؛ رجَع من ذنوبه كيوم ولدتْهُ أمُّه". وإذا كان في الجهاد من الأجر والثواب ما قد علمتم فالحج جهاد ولكن دون قتل ولا جراح قال صلى الله عليه وسلم (هلم إلى جهاد لا قتال فيه: الحج) رواه الطبراني وصححه الالباني.
ومن كان يشتكي كثرة الذنوب أو شدة الفقر فليتابع بين الحج والعمرة ففي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم "تابعوا بين الحجِّ والعمرةِ، فإِنَّهما يَنفيان الفقرَ والذنوبَ كما يَنفي الكيرُ (2) خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ.." رواه الترمذي وصححه.
والسير إلى الحج والعمرة مسيرة طاعة حافلة بالحسنات ورفع الدرجات وتكفير السيئات قال صلى الله عليه وسلم : "ما ترفعُ إِبلُ الحاجِّ رِجْلًا، ولا تضعُ يَدًا؛ إِلا كَتَبَ الله له بها حسنةً، أو محا عنه سيئةً، أو رفعه بها درجةً". رواه البيهقي.
فإذا وصل الميقات وأحرم وأخذ في التلبية حصل على فضيلة غيبية لا تسمعها أذن بشر قال صلى الله عليه وسلم "ما من مُلبٍّ يُلَبِّي إلا لَبّى ما عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ، حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا؛ عن يمينه وشماله" رواه الترمذي. وإلى ذلك تكون تلبيته هذه إن شاء الله من أسباب دخوله الجنة قال صلى الله عليه وسلم "ما أهلَّ مُهِلٌّ قط إلا بُشِّرَ، ولا كَبَّر مُكَبِّرٌ قط إلا بُشِّرَ". قيل: يا رسول الله! بالجنة؟ قال: "نعم". رواه الطبراني في الأوسط.
فإذا أخذ في الطواف كان له في طوافه أجراً عظيماً فإنه في طوافه «لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً» فإذا أتم طوافه "كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ» فإذا استلم الحجر والركن اليماني بيده حطّ الله بهذا المسح ما شاء الله من خطاياه كما قال صلى الله عليه وسلم «إِنَّ مَسْحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا» روى هذه الفضائل الثلاث الترمذي في سننه من حديث ابن عمر.
فإذا سعى بين الصفا والمروة كان له أجر من أعتق سبعين رقبة لله جلّ وعلا لقوله صلى الله عليه وسلم "وأما طوافُكَ بالصفا والمروة؛ كعتق سبعين رقبة" رواه الطبراني والبزار. وصححه الألباني بل كل حديث في هذه الخطبة هو من كتاب صحيح الترغيب والترهيب له رحمه الله.
وإذا حلق شعره ففيه قوله صلى الله عليه وسلم "لك بكل شعرةٍ حلقتَها حسنةٌ، وتمحى عنك بها خطيئةٌ". ودخل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ثلاثاً (اللهم اغفر للمحلقين) وإذا قصر شعره دخل في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال مرة واحدة (وللمقصرين) أي فاغفر لهم.
فإذا وقف الحجيج بعرفة باهى الله بهم سكان السماء ففي الحديث "إن الله يباهي بأَهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السماءِ، فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، جاؤني شُعْثاً غُبراً". رواه أحمد. ثم تفضل عليهم بمغفرته قال أنس رضي الله عنه : "وقفَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ (عرفات) وقد كادت الشمسُ أن تؤوبَ، فقال: "يا بلال! أَنصِتْ لي الناسَ". فقام بلال، فقال: أَنْصِتوا لرسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنصتَ الناسُ، فقال: "معاشرَ الناسِ! أَتاني جبرائيل آنفاً، فأقرأني من رَبي السلامَ، وقال: إنَّ الله عز وجل غفرَ لأهلِ عرفاتٍ، وأَهل المَشْعَر، وضَمِنَ عنهم التبعاتِ". فقام عمر بنُ الخطاب فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: "هذا لكم، ولمن أتى من بعدِكم إلى يوم القيامة". فقال عمر بن الخطاب: كثرَ خيرٌ الله وطابَ. رواه ابن المبارك كما في صحيح الترغيب.
وإذا رمى الجمرات أيامَّ منى "فلا يدري أحد ماله حتى يوفاه يوم القيامة" رواه ابن حبان. وكانت له نورا يوم القيامة كما في مسند البزار.
وفي مكة ماء زمزم وفيه يقول صلى الله عليه وسلم (زمزم طعام طعم وشفاء سقم) رواه البزار. وقال ابن عباس "كنا نسميها شُبَاعة وكنا نجدها نعم العون على العيال" أي أنها تذهب العطش والجوع.
فهذا بعض ما في الحج والعمرة وتلك المشاعر والمناسك من الحسنات والخيرات والبركات. فهنيئاً لمن يسر الله له الحج فبادر إليه وما أعظم حرمان من فرّط وقصر فترك الحج المفروض من غير عذر شرعي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم وبهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان واقتفى أثرهم. وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الحج إلى البيت الحرام فريضة محكمة وشريعة معظمة وعبادة جليلة يراد منها التقرب إلى الله وما عنده من الأجر والثواب وأسباب الوقاية من السخط والعذاب مع الرغبة فيما يتبع ذلك الأجر الأخروي من المنافع العاجلة في الشؤون الدينية أو الدنيوية.
ومن جعل الله له الولاية على البيت فإنه مأمور بفتح أبواب البيت لقاصديه ومأمور بتهيأة الأسباب التي تعين الحجاج والمعتمرين على أداء المناسك آمنين مطمئنين مكرّمين.
وهذا ما فعلته المملكة العربية السعودية من أول يوم منّ الله عليها فآلت إليها مقاليد الحرمين الشريفين فأمنوا السبل ووسعوا الحرمين التوسعات العظيمة وأنشؤوا المرافق التي تخدم الحجاج في جميع المشاعر وفي الطرق إليها فالخيام عامرة والمستشفيات جاهزة والمطاعم والأسواق منتشرة ورجال الأمن في كل شبر والمتابعة لضيوف الله في كل لحظة من أعلى الهرم في الدولة إلى أصغر مسؤول وليس فيمن يخدم الحرمين صغير.
وأخذت الدولة على نفسها العدل بين الحجاج على اختلاف مذاهبهم وفضلا عن طبيعة العلاقة القائمة بينها وبين الدولة التي يتبع لها الحاج فخدمتهم لا تتأثر سلباً لا بقليل ولا بكثير بأي خلاف سياسي بينها وبين أي دولة كانت ما كانت. ومن تأمل سياستها مع حجاج إيران عرف ذلك. فعلى عظيم ما فعلوا وشنيع ما ارتكبوا إلا أنها وفقها الله لا تأخذ الحاج البريء القاصد أداء العبادة بجريرة النظام الذي يتبع له. فمن جاء للحج فقط تساقطت عليه النخلة بما شاء من كرم وضيافة وأمن وحماية ومن جاء يسفك الدماء ويعيث في الحرمين الفساد. ولم ينكف شره بالحسنى فالسيفان له بالمرصاد.
فمن العجيب بعد ذلك أن تتهم دولتنا وفقها الله بتسييس الحج وأنها تمنع الحاج أو تؤذيه أو تضيق عليه أو لا تقوم بحقه إذا كان بينها وبين دولة الحاج خلاف سياسي.
ومن العجيب بعد ذلك أن يطالب من يطالب برفع ولاية الدولة عن الحرمين وتنصيب إدارة دولية ترعاهما.
ولكن لا عجب فمن جعل قدوته الخميني ودولته وأصغى لخبيث أرائهم وسعى في تنفيذ مخططاتهم لعداوة دينية أو دنيوية فإنه سيدعو لذلك ولأكثر منه والله المستعان.
وقد تابعتم وسمعتم ما قام به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله وأطال في عمره على طاعته باستضافة جميع حجاج قطر ومعاملتهم معاملة استثنائية مع ما لقيته الدولة من ذلك النظام. وما ذلك إلا تأكيد منها أن الحج شيء والعلاقات السياسية شيء آخر.
نسأل الله أن يحمي بيته ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يحفظ الحجاج والمعتمرين من كل سوء . وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على جهودهم العظيمة في خدمة الإسلام والمسلمين عامة وفي خدمة ضيوف الرحمن بصفة خاصة.
اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة, اللهم أعز الإسلام والمسلمين واذل الشرك والمشركين. وانصر عبادك الموحدين.
اللهم وفق جيوشنا ورجال أمننا واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وسدد رميهم. ومكنهم من عدو بلاد التوحيد والحرمين الشريفين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.