أما بعد:
فإن الله تعالى جعل عدة الشهور اثني عشر شهرا يوم خلق السموات والأرض، وفاوت بين هذه الأشهر فمنها شهر الصيام ومنها أشهر الحج ومنها الاشهر الحرم، ولله في كل ذلك الحكمة البالغة يعلم ولا نعلم سبحانه وتعالى.
وها نحن في شهر الله المحرم أحد الأشهر الحرم التي قال الله فيها (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) فإذا كانت تقوى الله مطلوبة في كل الأشهر فهي في هذه الأشهر آكد وألزم قال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم والظلم فيهنّ أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما.
ومما يشرع في هذا الشهر صيامه كله فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " . رواه مسلم .
فإذا استطاع المسلم أن يفوز بأجر صيام هذا الشهر كله فليفعل، وإن لم يتيسر له فليحرص على صيام عاشوراء وهو اليوم العاشر منه على المشهور عند أهل العلم لحديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: " يكفر السنة الماضية " رواه مسلم ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إِلا هذا اليوم : يومَ عاشوراء" الحديث متفق عليه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على صيام عاشوراء قبل أن يشرع صيام رمضان حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن صومه كان واجباً.
والأفضل لمن أراد صوم عاشوراء أن يصوم قبله يوماً وإن شاء صام بعده يوماً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) رواه مسلم
والحكمة من سبقه بصيام أو إتْباعه بصيام مخالفة اليهود والنصارى فإنهم كانوا يفردونه بالصوم قال ابن عباس: "حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم. رواه مسلم.
إخوة الإسلام:
إن الحكمة من تشريع صيام عاشوراء أن يكون صيامه شكراً لله سبحانه وتعالى لأنه يوم نجى الله فيه موسى ومن معه من المؤمنين من بني إسرائيل وأغرق فيه فرعون وجنوده. وإذا كان اليهود يصومونه فنحن أحق بموسى منهم كما قال عليه الصلاة والسلام لأنهم كفروا بدينه وبدلوه وغيروه وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يلزمهم أن يؤمنوا به بل لو كان موسى حياً حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ما وسعه إلا أن يتبعه ، أما نحن فإنا على التوحيد الذي بعث الله به موسى وبعث به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
عباد الله:
إن موسى عليه السلام ما بعث ليصارع فرعون على كرسي الحكم وإنما بعث ليدعوه ومن معه إلى أن يفردوا الله بالعبادة ويَدَعوا عبادة ما سواه كما هو الشأن في حال جميع انبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام كما قال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
فمن الجناية على الدعوة وعلى الأمة أن ينحرف مسار الدعاة الى الله من الحرص على الدعوة الى العقيدة الصافية إلى مسار آخر لا يكون فيه همّ الداعية إلا تأليب الجماهير على الحكومات والسعي للفتن والانقلابات وسلوك كل السبل الممكنة للوصول الى هذا المقصد ولو خالف أصول الدين و فروعه.
فهذه ليست بطريقة محمد صلى الله عليه وسلم ولا عيسى ولا موسى ولا إبراهيم ولا نوح عليهم الصلاة والسلام وهم أولوا العزم من الرسل وقدوة الدعاة وأئمتهم ، وما قص الله علينا دعواتهم بالتفصيل الا ليتخذ الدعاة منها نبراساً ومنهاجاً.
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
اما بعد:
فإذا عرفنا المشروع فعله في شهر الله المحرم على ضوء النصوص الشرعية فيحسن التنبيه الى بعض المخالفات التي تقع من بعض الناس في هذا الشهر فمنها ظن بعضهم ان هذا الشهر تبدأ فيه صفحة جديدة لعمل العبد بعد أن طويت صفحة أعماله في شهر ذي الحجة ورتب بعض الناس على ذلك جعلَ آخر العام الهجري توقيتاً مناسباً لمحاسبة النفس ومراجعتها وهذا كله لا أصل له ولا دليل عليه فابتداء السنة الهجرية بشهر محرم امر رُتّب في زمن عمر رضي الله عنه بعد أن انقطع الوحي وكمل الشرع وما أريد منه الا صبط التاريخ لتمييز العقود والمعاملات والمكاتبات ونحو ذلك من المصالح ...
وأخذ بعض الناس يتدوال أحاديث مكذوبة لا ذكر لها في كتب الحديث ترتب دعاء خاصا لأول يوم من محرم وتَعِد من قاله بوعود اخترعها واضع الحديث ومفتريه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أسرع ما تنتشر البدع في هذا العصر بسبب تيسر التواصل بين الناس عبر وسائل الاتصالات الحديثة فكونوا على حذر ولا تنقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً الا بعد التحري والتأكد منه فإن ناقل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الوعيد الشديد والعياذ بالله.
ومن البدع المحدثة في شهر محرم ما تفعله الرافضة من إقامة المآتم والأحزان وضرب الأجساد حزنا على قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيما يزعمون.
وبعض أهل السنة قد يتابع هذه الاحداث عبر وسائل الإعلام من باب الفرجة والاطلاع ولكن هذا فيه خطر عظيم لأنه يصحب هذه التجمعات إلقاء الكلمات المشحونة بصرف العبادة لغير الله كالدعاء والاستغاثة، والمملوءة بالكذب على الله وعلى رسوله وعلى أصحابه وعلى آل بيته ، ومن لا يميز بين الحق والباطل والصدق والكذب قد يغتر بما يسمع فيدخل في قلبه حب البدعة فينقلب نفوره إلى قبول واستنكاره إلى رضى والعياذ بالله وقد قال تعالى في صفة عباد الرحمن (والذين لا يشهدون الزور) أي لا يحضرون مجالس الكذب والباطل والإثم، وقال صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) أعاذني الله وإياكم من مضلات الفتن.
معاشر المؤمنين صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين ...