إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واستحيوا من الله حق الحياء فإن الحياء من أجلِّ الأخلاق التي دعا إليها ديننا الحنيف حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء).
وإذا كان دخول الجنة مرهوناً بالإيمان فاعلموا أن الحياء من أعظم شعب الإيمان ومن آكد أجزائه قال صلى الله عليه وسلم "الحياءُ مِنَ الإيمانِ، والإيمانُ في الجنَّةِ" الحديث. وذُكر الحياء عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله الحياءُ من الدين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل هو الدين كله) .
ومن رأيتموه من أبنائكم أو إخوانكم شديد الحياء فدعوه على هذه الخصلة الفاضلة الحميدة وشجعوه عليها ولا تناصحوه بترك الحياء أو التخفف من سلطانه فقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال صلى الله عليه وسلم "دعه فإن الحياء من الإيمان" متفق عليه.
ولا تخشوا على أحد من الحياء فإن الحياء للقلب كالغيث الطيب المبارك الذي يحيى الله به الأرض فتجود ببركاتها من الزروع والأشجار والأزهار والثمار فكذلك الحياء يفعل في القلب يبعث على كل خلق جميل وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (الحياء لا يأتي إلا بخير) متفق عليه.
عباد الله:
إن الحياء من الإيمان لأنه يحجز العبد عن الذنوب والخطايا والقبائح والرذائل والتقصير في جنب الله تعالى، فالمؤمن يستشعر قرب الله منه واطلاعه عليه وعلمه بحاله فيورثه ذلك الحياء من الله أن يدع ما أمره به أو يفعل ما نهاه عنه، ويستحي من الله أيضاً حين يتأمل نعم الله تترى عليه وهو يقابل ربه بالعصيان، فيستحيي من ربه ويحاسب نفسه ويجاهدها على استعمال نعم الله تعالى في طاعة الله لا في معصيته.
فالمؤمن الحيي أبعد ما يكون عن الفحش والفسق والبذاء والفجور كما أن الفاحش الفاسق البذيء أبعد ما يكون عن الحياء، فالحياء يقود إلى الإيمان والعمل الصالح وهما يقودان إلى الجنة، والفحش يقود إلى الفسوق والفجور والبذاء وهي تقود إلى النار والعياذ بالله قال صلى الله عليه وسلم "الحياءُ مِنَ الإيمانِ، والإيمانُ في الجنَّةِ، والبذاءُ مِنَ الجفَاءِ، والجَفاءُ في النارِ".
عباد الله:
المؤمن الحيي يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً. ويقوم بما أمره الله به حسب استطاعته.
والمؤمن الحيي يجتنب ما نهاه الله عنه من الزنا والربا وشرب الخمر وإطلاق البصر في الحرام وأكل المال الحرام. وهكذا هو مع كل ما حرم الله عليه.
والمؤمن الحيي لا يصر على ذنب بل متى زلت به القدم استحيا من الله وتاب وأناب واستعتب ربه وألح عليه أن يغفر ذنبه وأن يستر عيبه قال تعالى في المتقين : "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ".
عباد الله:
كما أن الحياء من الله من شعب الإيمان فكذلك الحياء من الناس هو من شعب الإيمان أيضاً فقد أمرت بأشياء ونهيت عن أشياء في التعامل مع الناس وما لم يكن عند المرء حياء راسخ لم يقم بالحقوق التي عليه لهم ولم يَكفّ عن المنهي عنه معهم.
فالمؤمن الحيي يبر بوالديه ويصل رحمه ويحسن عشرة زوجته ويرحم أهله وولده ويحسن تربيتهم ويحسن إلى جاره ويوفي الأجير أجرته ويقضي الدائن دينه ويقوم بالواجب عليه في وظيفته بالمحافظة على ساعات دوامه وقضاء مصالح الناس التي كلف بها.
والمؤمن الحيي لا يكون سباباً ولا لعّانا ولا فاحشاً ولا بذيئاً، ولا يبغي على بعيد ولا قريب في نفس أو عرض أو مال. بل هو من كل شر بعيد وإلى كل خير قريب.
أيها المسلمون:
إن أكثر ما ينزع الحياء من القلوب مخالطة من لا يستحي والاقتداء بهم ولهذا لما كثرت مخالطة كثير من المسلمين للكفار والمشركين ممن لا يقيم لتقوى الله وزنا ولا يرى للحياء والعفة قدراً تأثروا بهم مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (المرء على دين خليله) فاقتبسوا من أخلاقهم المنافية للحياء والأدب الإسلامي شيئاً كثيراً والعياذ بالله كتضييع العبادات والتفريط فيها وكمشابهتهم في ألبستهم وزينتهم وفي علاقة أحد الجنسين من الذكر والأنثى بالآخر.
فاستمسكوا بأخلاقكم الكريمة فإن ديننا دين الخلق القويم والأدب المستقيم وقدوتنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وكان أشد حياء من العذراء في خدرها وهو الذي أثنى عليه بارئه ومولاه فقال (وإنك لعلى خلق عظيم) ومَن زينه بمحاسن الأخلاق ومكارمها سبحانه أمرنا أن نقتدي به فقال جل وعلا (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان واقتفى أثرهم. وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الحياء مطلوب من كل مسلم ومسلمة ولكن الحياء في جانب النساء آكد. فالمرأة محل طمع الرجال فإذا قل حياؤها وضعفت حشمتها أرخصت نفسها وضيعت دينها وعرضت نفسها لمخاطر جسيمة في شرفها وسمعتها وسمعة أهلها وقرابتها. ولهذا نوّه الله تعالى بحياء المرأة فقال تعالى عن ابنتي شعيب صاحب موسى (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) ثم قال سبحانه (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) الآية.
فنوّه بحسن تربيتهما وأخلاقهما وحيائهما فلم يبتذلن أنفسهن ويعرضنها للفتنة بمزاحمة الرجال بل كن يبتعدن حتى ينتهي الرجال من السقي.
ونوّه بالفتاة المرسلة من أبيها إلى موسى أنها جاءته تمشي والحياء متمكن منها في مشيتها حتى بلغته الرسالة.
ومن المقاصد في ذكر حيائهن التنبيه على أن تكون تربية الآباء والأمهات لبناتهم على مثل هذا الحياء والحشمة، وتنبيه النساء أن يَكُنّ كذلك في سيرتهن وسلوكهن فقد قال تعالى في مشية المرأة (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).
وكما شرع للمرأة الحياء في مشيتها فقد شرع لها الحياء في صوتها وهي تكلم غير زوجها فقال تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} وإذا نهي نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن الخضوع بالقول وهن الطاهرات المطهّرات فغيرهن من باب أولى.
وشرع لها الحياء في لباسها وزينتها وبدنها فأمرت بالقرار في البيوت كما قال تعالى (وقرن في بيوتكن) فلا تخرج إلا لحاجة ومصلحة دينية أو دنيوية. ونهيت عن التبرج كما قال تعالى (ولاتبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقال تعالى (وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب).
ولما نزلت هذه الأحكام بادر نساء المؤمنين إلى امتثالها والعمل بمقتضاها فكنّ أحرص النساء على التستر والاحتشام ففي قصة الإفك أنّ عائشة رضي الله عنها ما إن رأت صفوان بن المعطَّل حتى بادرت إلى تغطية وجهها وما كلمته ولا كلمها حتى لحقا بالجيش.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن النساء يرخين ثيابهن شبراً تعجبت أم سلمة ورأت أن الشبر قليل لأنه قد ينكشف فتبدو أقدام المرأة فقالت: "إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ»، رواه الترمذي وصححه. وقال مجاهد: "كانت المرأة من النساء الأولى تتخذ لِكُمِّ دِرعها أزرارا تجعله في أصبعها تغطي به الخاتم".
بل بلغ الحياء مبلغا لا يكاد يبلغه الخيال من المرأة المسلمة في مجتمع الصحابة في قصة المرأة السوداء التي كانت تصرع وكانت تتكشف حال صرعها دون ارادة ولا اختيار منها فجاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لها ان يشفيها الله فقالت اني أصرع وأتكشف فادع الله لي فقال لها إن شئت صبرت ولَك الجنة وان شئت دعوت الله لك ان يعافيك فقالت بل اصبر فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها متفق عليه. فانظر كيف رضيت بالصبر على المرض ولم ترض بالتكشف في حالة هي معذورة فيها. فما أطهر تلك القلوب وما أسمى تلك الأخلاق.
نعم عباد الله هذا حال نساء الصحابة والتابعات لهن بإحسان في الحياء والتستر والتصون والاحتشام. وهن القدوة الصحيحة لنساء المسلمات.
عباد الله:
لقد ضعف سلطان الحياء على كثير من النساء وخفتت نار الغيرة عند كثير من الرجال فتولد عن ذلك خلل كبير ملحوظ في عدد غير قليل من النساء كما يشاهد ذلك في المستشفيات والأسواق وغيرها من مجامع الناس فصار مألوفاً عند بعضهم أن تكشف المرأة ذراعها أو تكشف وجهها بكامل زينته أمام البائع والسائق وغيرهما من الرجال الأجانب عنها. حتى إن المقارنة لتكاد تكون بعيدة كل البعد بين الحال اليوم والحال قبل سنوات قريبة منصرمة والله المستعان.
فاتقوا الله في تربية أبنائكم وبناتكم واتقوا الله في نسائكم وأخواتكم وقوموا بما أوجب الله عليكم من القوامة عليهم بأطرهم على الحق أطراً في لباسهن وزينتهن وخروجهن فإنكم مسؤولون عن أهليكم كما أنكم مسؤولون عن أنفسكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير سيد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين اللهم صل وسلم عليه وعلى خلفائه الراشدين وأزواجه وأهل بيته وعامة أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وأصلح لهم البطانة ، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه ولا تجعله ملتبسا عليهم فيضلوا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.