العنوان : حرص النبي صلى الله عليه وسلم على سلامة الأفكار من الزيغ والانحراف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى واعلموا أن الله ما بعث نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدلّ أُمته على خير ما يعلمه لهم، ويُنذِرَهم شَرَّ ما يعلمه لهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وإن أكملهم مقاماً في الدلالة على كل خير والنذارة من كل شر هو محمد صلى الله عليه وسلم لكونه خاتم النبيين فلا نبي بعده صلوات الله وسلامه عليه.
وإن من كمال نصحه وحرصه على أمته أنه كان يتعاهدهم بالتذكير والتنبيه والإرشاد والنصح إلى المصادر النقية الصافية التي يتلقون منها دينهم وعقيدتهم ويحذرهم من المصادر التي تفسد عقائدهم وتلوث أفكارهم.
ومن ذلك: حثه أمته في كل خطبة على التمسك بالمصدرين العظيمين الكتاب والسنة فكان يقول في خطبته : "أما بعدُ، فإن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدْي هدْيُ محمد" والمعنى أنه ما دام القرآنُ خير كتاب وهديُ النبي صلى الله عليه وسلم خير هدي إذاً فتمسكوا بهما وعضوا عليهما بالنواجذ، ولا تطلبوا الهدى من غيرهما.
وصرّح بهذا المعنى في حجة الوداع ففي حديث جابر عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ". وفي حديث ابن عباس عند الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا ، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ".
ولما استوصاه أصحابه رضي الله عنهم في آخر حياته لما شعروا بدنوّ أجله قال لهم ولأمته كلها: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ِ" رواه أبو داود.
وأمرهم أيضاً أن يتبعوا سنة خلفائه الراشدين المهديين وأن يكونوا على ما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" رواه أبو داود. ولما سئل عن الفرقة الناجية من النار قال صلى الله عليه وسلم (ما أنا عليه وأصحابي) رواه الترمذي. فمن أراد السلامة من الزيغ والاستقامة على الهدى فعليه أن يتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يفهم الكتاب والسنة فهماً يتفق مع فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم خير هذه الأمة وأهداها سبيلاً، وهم كما قال ابن مسعود: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ»
ولما كان هذا شأن الصحابة في العلم والعمل والاستقامة فإن الله تعالى لا يرضى عن أحد ممن يجيء بعدهم إلا إذا أحسن في اتباعهم قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
فهذه هي المصادر الثلاثة الآمنة التي أمرنا الله تعالى وأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم أن نأخذ عنها ديننا وعقيدتنا ومنهجنا (الكتاب والسنة وما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ) وبذلك يسلم لنا ديننا وتسلم لنا أفكارنا من الزيغ والانحراف إلى هُوّة الغلو والإفراط أو إلى التقصير والتفريط.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سبيلهم واقتفى أثرهم. وسلم تسليما أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم مع اجتهاده في بيان المصادر الصحيحة النقية التي يؤخذ منها الدين فإنه صلى الله عليه وسلم كان _أيضاً_ يحذرها من المصادر التي تمثل خطراً على العقائد والأفكار فتورثها الشك والارتياب أو تزين لها البدع والمحدثات ومن ذلك أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ ، وَقَالَ : «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» رواه أحمد وحسنه الألباني .
قَالَ الإمام أَبُو عُبَيْدٍ القاسم بن سلام في معنى الحديث أي: "أمتحيرون أَنْتُم فِي الْإِسْلَام لَا تعرفُون دينكُمْ حَتَّى تأخذوه من الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟! فَمَعْنَاه أَنه كره أَخذ الْعلم من أهل الْكتاب" اهـ ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (لقد جئتكم بها بيضاء نقية) أي جئتكم بالملة الحنيفية وأوضحتها لكم حتى لم يعد فيها لبس، وجئتكم بها نقية أي خالصة من الشرك والبدع والمحدثات والخرافات.
وتأمل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو الفاروق الملهم رضي الله عنه أن ينظر في شيء من صحف أهل الكتاب ولم يقل له خذ ما فيها من الحق ودع ما فيها من الباطل فإن الذي يقرأ كل شيء ويستمع لكل أحد لا يأمن على نفسه الفتنة والحيرة والضلال ولذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم والخطاب له ولأمته {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [الأنعام: 68] فنهى الله تعالى عن المجالس التي يخاض فيها في الدين بالباطل كمجالس أهل البدع وفي حكمها كتبهم ودروسهم ومقالاتهم.
فما أعظم فقه السلف حين حذروا غاية التحذير من الاستماع لأصحاب العقائد الفاسدة فضلا عن مصاحبتهم أو الدراسة عليهم.
ومن حرصه أيضاً _ عليه الصلاة والسلام _ على سلامة الأفكار من الزيغ أنه كان يحذر أمته في كل خطبة من البدع والمحدثات في الدين أشد التحذير فكان يقول في خطبته "وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا . وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" ، وقال في وصيته في آخر حياته: "وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ". وذلك أن البدع من أخطر أنواع الضلال والزيغ لأن صاحبها يظن أنها تقربه إلى الله تعالى وهي لا تزيده منه إلا بعداً ويظنها طرقاً توصله إلى الجنة وما هي إلا طرق توصله إلى النار والعياذ بالله.
فاللهَ نسأل أن يثبتنا جميعاً على الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأن يعصمنا من الزيغ والزلل ومن مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين . اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم احفظ إمامنا إمام المسلمين بحفظك واكلأه برعايتك وانصره على أعداء الإسلام نصراً مؤزراً اللهم اجمع به كلمة المسلمين على الحق برحمتك يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.