إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى عباد الله وخافوا المقام بين يديه للجزاء والحساب فإن من خاف ربه في هذه الدنيا الخوف الشرعي أمن يوم القيامة وفاز بالنعيم المقيم في دار الكرامة كما قال تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وقال تعالى (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).
إن الخوف من الله تعالى أحد الأسس التي تقوم عليها عبادة العبد لربه فإن المؤمن يعبد ربه على أساسين عظيمين هما الخوف من الله والرجاء فيه كما قال تعالى (وادعوه خوفاً وطمعاً).
وموجبات الخوف من الله تعالى كثيرة ومن ذلك أن الله عز وجل أمر عباده بالخوف منه فقال تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقال تعالى (وإياي فارهبون) وحذّر عباده نفسه فقال تعالى في آيتين من كتابه، فقال في الأولى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي يخوفكم عذابه وسخطه ونقمته إن أنتم عصيتم أمره وارتكبتم نهيه فإن مصيركم إليه يوم القيامة.
وقال في الثانية {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} قال الحسن البصري “من رأفته بهم حذرهم نفسه” أي حتى يُعذر إليهم ومن أنذر فقد أعذر.
ومن موجبات الخوف من الله تعالى ما قصه في كتابه الكريم من أخبار النار وصفتها وما أعد فيها من أنواع العذاب والنكال كقوله تعالى {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وقوله تعالى {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}
ومن موجبات الخوف من الله ما أنبأ الله تعالى عنه مما يلاقيه المجرمون عند الاحتضار من العذاب والهوان والخذلان كقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي أن ملائكة الموت تبسط أيديها بضربهم عند الاحتضار لأنهم إذا بشروا بالنار تفرقت أرواحهم في أجسادهم خوفاً وفزعاً فتضربهم الملائكة قائلة لهم أخرجوا أنفسكم. والعياذ بالله.
ومن موجبات الخوف من الله تعالى ما قصه الله تعالى في كتابه من إهلاكه لمن كذبه وكذب رسله وعصى أمره وارتكب نهيه فأغرق قوم نوح بالطوفان وأهلك قوم لوط بالحجارة وقلب أرضهم عليهم وأهلك عاداً بالريح وأهلك ثمود بالصيحة وأهلك فرعون وجنوده بالغرق، وأهلك قارون بالخسف به وبداره فابتلعتهم الأرض أعاذنا الله وإياكم من أسباب سخطه وموجبات نقمه قال تعالى { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
ومن موجبات الخوف من الله تعالى ما جاء في الكتاب و السنة من الوعيد على المعاصي بالعقوبات العاجلة والآجلة ومنها على سبيل المثال ما توعد به النبي صلى الله عليه وسلم المجتمعين المجاهرين بالخمور والمعازف والمغنيات كما جاء في عدد من الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً منها قوله صلى الله عليه وسلم «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، وذاك إذا شربوا الخمور واتخذوا القَيْنات وضربوا بالمعازف» وقوله صلى الله عليه وسلم «ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف، فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير» رواهما ابن أبي الدنيا عن أنس.
ومنها ما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن؛ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومن موجبات الخوف من الله تعالى أن يعلم العبد أن ربه جلّ وعلا معه في سره وجهاره وليله ونهاره يسمع كلامه ويرى مكانه ويحصي عليه كبير عمله وصغيره فأين يختبئ من الله من كان الله معه وأين يفلت من الله من كان الله محيطاً به قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلن واعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان واقتفى أثرهم. وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الخوف المطلوب من العبد هو الخوف الذي يحجزه عن الوقوع فيما يغضب الله تعالى بترك ما أوجب أو فعل ما حرّم.
وليس القصد من الخوف أن يبلغ العبد حدّ اليأس والقنوط من رحمة الله فاليأس والقنوط من صفات أهل الكفر والضلال.
ثم استعينوا على تحقيق الخوف من الله تعالى بكثرة تلاوة القرآن وتدبره والاتعاظ بمواعظه وقصصه وبالتأمل في أسماء الله تعالى وصفاته ودلالات معانيها، وبتذكر الموت وزيارة القبور واستحضار مواقف يوم القيامة وأهوالها، وبمصاحبة أهل التقوى والخوف والخشية من الله وفي مقدمتهم العلماء الربانيون فإن مجالستهم ومصاحبتهم تربي على الخشية والخوف والحياء من الله قال الله تعالى (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) أي العلماء بالله العاملون بعلمهم هم الذين يخشون الله الخشية التامة الكاملة.
اللهم ارزقنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك اللهم اجعلنا ممن يعبدك خوفاً منك ومن عذابك وطمعاً فيك وفي ثوابك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى اللهم ارفع بهم منار الحق والرشاد واقمع بهم أهل الزيغ والفساد واجعلهم مفاتيح للخير والمعروف مغاليق للشر والمنكر برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب الله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.