العنوان : مثل المؤمن كمثل النخلة
.. أما بعد:
فإن الله تعالى قد اختص المؤمنين من بين سائر الناس بصنوف من المزايا والخصائص والفضائل، وكلما كان نصيب العبد من الإيمان أعظم كانه نصيبه من الفضل أعظم واوفر.
وقد جاءت نصوص الوحي تبين فضل المؤمن وعلو مكانته حتى يعرف العبد فضل الله عليه فيشكره ويقوم بطاعته وحتى يحافظ على خيريته فلا يفقدها بفعل ما ينافيها ويضادها او ينقصُ من قدرها..
فمن النصوص التي جاءت تبين فضل المؤمن حديث تشبيه المؤمن بالنخلة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً مع بعض أصحابه فقال إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البوادي فقال عبد الله بن عمر : ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: «هي النخلة» قال: فذكرتُ ذلك لعمر. قال: لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي هذا الحديث التنبيه على فضل المؤمن وكثرة نفعه فلم يشبهْه إلا بأحسن الشجر وخير النبات.
شبّهه هنا بالنخل وشبهه في حديث أخر بالكرم وهو شجر العنب لما فيهما من كثرة النفع والخير.
فمن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة ثبات إيمانه في قلبه كثبات أصل النخلة في الأرض قال تعالى (الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)
فلا تحطمه الفتن ولا تزعزعه الشبهات فهو كالنخلة التي تهب عليها الأعاصير والرياح ثم تنجلي وإذا النخلة صامدة ثابتة قائمة وهكذا المؤمن الصادق في ثباته على الحق لا تفتنه رغبة ولا رهبة عن الحق الذي يدين الله به.
ومن شبهه بالنخلة أنها من أصبر الشجر فتحتمل كثيراً من العوارض والافات التي تموت بسببها كثير من الأشجار وهكذا المؤمن في صبره على مرضات ربه وصبره على اجتناب نهيه وصبره على اقدار الله وقضائه.
ومن شبهه بالنخلة أنها شجرة تحتاج إلى العناية والرعاية والتعاهد حتى تنبت أحسن نبات وتؤتي أحسن الثمر وهكذا المؤمن يحتاج إيمانه منه أن يتعاهده وأن يرعاه بالتفقه في الدين وبالعمل بالعلم وبتجنب ما ينقص الإيمان من الجهل والغفلة والمعاصي كما يتعاهد النخلة صاحبُها الخبير بشأنها الحريص عليها فتراه يسقيها ويتابعها ويبعد عنها الحشائش والنباتات التي يضرها جوارها إلى غير ذلك من صور الرعاية والعناية. والمؤمن إذا اهمل إيمانه وغفل عنه نهشته الشياطين واتلفته المعاصي حتى ربما انسلخ من إيمانه بالكلية وربما بقي معه إيمان ضعيف كحبة برة أو شعيرة أو دونها بكثير ...
ومن شبهه بالنخلة أن النخلة مباركة الأجزاء ينتفع بعروقها وجذعها وأوراقها وثمرتها وكل ما فيها وهكذا المؤمن مبارك كله قد استعمل نفسه في طاعة الله يعبد الله بقلبه فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ويؤمن بالقدر خيره وشره ويعبد الله بلسانه فيقول كلمة التوحيد ويتلو القران ويذكر الله بأنواع الذكر المشروعة ويعبده بجوارحه فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم ويحج ويفعل ما شرع الله له قدر استطاعته..
ومن شبهه بالنخلة كثرة نفعه المتعدي فالمؤمن من أنفع الخلق للخلق فتراه كالغيث حيثما وقع نفع يعلم الجاهل ويذكر الغافل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويغيث الملهوف ويعين على نوائب الدهر فهو ينفع الناس بعلمه وينفعهم بماله وينفعهم بجاهه وينفعهم بكلامه وبأعماله.
وقد جاءت النصوص الصحيحة حاثة على الإحسان والنفع بما أذن الله فيه كتفريج الكربات وتنفيسها والمشي في قضاء الحوائج وجاء في السنة ما يدل أن الحرص على النفع والإحسان من أسباب محبة الله للعبد ففي الحديث ( أحب الناس إلى الله أنفعهم و أحب الأعمال إلى الله عز و جل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا) الحديث وفي حديث أخر " المؤمن يألف و يؤلف و لا خير فيمن لا يألف ، و لا يؤلف و خير الناس أنفعهم للناس " . خرجها الالباني في السلسلة الصحيحة.
ومن شبه المؤمن بالنخلة أن النخلة لا يسقط ورقها وجاء في بعض روايات الحديث أن المؤمن كذلك لا تسقط له دعوة فليكثر العبد من الدعاء وليحذر في الوقت نفسه من موانع إجابة الدعاء
ومن أوجه الشبه المستنبطة أيضا أن النخلة لا يسقط ورقها صيفا ولا شتاء فكذلك المؤمن لا يسقط لباس تقواه بل هو ملازم للتقوى دائماً وابداً حتى يلقى ربه.
ومن أوجه الشبه بين النخلة والمؤمن أن النخلة طيبة الثمرة وأنها تؤتي أكلها كل حين فثمرتها تؤكل صيفاً وشتاء رطباً وبسراً وتمراً .. وهكذا المؤمن الصادق طيب الكلام صالح العمل. لا تسمع منه إلا الكلمة الطيبة ولا تراه إلا في عمل نافع. فيه صلاح دين أو دنيا.
ومن أوجه الشبه بين المؤمن والنخلة أن النخلة كلما طال عمرها كثر نفعها وهكذا المؤمن كلما طال عمره كثر عمله الصالح وازداد خيراً واجتهاداً وبذلاً وإحساناً ..
ومن أوجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة أن خيره قريب سهل يسير ممن أراده ليس بفظ ولا غليظ وهكذا النخلة يفيء الناس إلى ظلها ويأكلون ثمرتها ويحصلونه منها بيسر وسهوله إن كان دانياً تناولوه وإن كان عالياً ففي جذعها درج مهيأ يرتقيه من أراده بخلاف أكثر الشجر الطوال فالوصول إلى ثمرتها صعب عسير..
إخوة الإيمان:
هذه قطرات من بحار المعاني الجليلة التي تضمنها هذا الحديث الشريف في بيان فضل المؤمن وكرمه بتشبيهه بالنخلة.
فمن كانت هذه الصفات فيه فليحمد لله وليسأل الله من فضله ومن كان عارياً من شيء منها فليجتهد في إصلاح نفسه وتقويمها وتكمليها
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن من المناسب أن أختم هذه الخطبة ببعض التنبيهات المناسبة لموضوعها فمنها أن بعض الناس اذا مرّ به ذكر المقارنة بين المسلمين والكفار انطلق لسانه بمدح الكفار والثناء عليهم والإعجاب بهم وانطلق لسانه بثلب المسلمين وذمهم وذكر معايبهم ولا شك أن هذا غلط عظيم فالمؤمن مهما كان عنده من النقص فهو خير من مِلْيء الأرض من الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين والملاحدة ولا يستوي عند الله عبد كافر وعبد مسلم ولو كان في المسلم نقص كبير..
ومن التنبيهات أن بعض الكتاب وبعض الطلاب في المدارس يرددون في بعض المناسبات حديث (أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه أدم) وهذا حديث لا تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراويه مسرور بن سعيد متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ايها الإخوة:
لنتعاهد إيماننا ولنحاسب انفسنا ولننظر إلى شعب الإيمان ولنستكلمها قدر الطاقة وجهد الاستطاعة فكلما كمل العبد إيمانه كلما ارتفعت عند ربه درجته وإذا كان النخل يتفاوت جودة ونفعاً فكذلك أهل الإيمان يتفاوتون في الخير والفضل جعلني الله وإياكم من المسارعين في الخيرات التاركين للمنكرات إنه جواد كريم
جزاك الله خيرا كثيرا والجنة. جميل جدا ومفيد ليفتح المؤمن نفسه ويستكمل نقصه.