العنوان : فضل إحياء الأنفس والحث على تعلم الإسعافات الأولية (خطبة مكتوبة)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحفظوا ما أمركم الله بحفظهِ ولا تُضيّعوه، وصِلُوا ما أَمركم اللهُ بوصلهِ ولا تَقْطَعوه.
معاشرَ المؤمنين: إنَّ النفسَ البشريةَ لها في الإسلامِ حُرمةٌ عظيمة، حتى ولو كانتْ نفسَ كافرٍ يتخبّطُ في كفره، أو نفسُ جنينٍ لا يَزالُ في بطنِ أُمِّه، ولِعِظَمِ شأنِها جعلَ اللهُ قتلَ نفسٍ واحدةٍ _بغيرِ حقٍّ_ بمنزلةِ قتْلِ الناسِ جميعاً، وجَعلَ إحياءَ نفسٍ واحدةٍ بمنزلةِ إحياءِ الناسِ جميعاً، ترهيباً عظيماً من إنهائها، وترغيباً عظيماً في إحيائها، قال تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}
ولِعَظَمِ شأنِ النفسِ والمحافظةِ عليها أُبيحتْ بعضُ الـمُحَرّماتِ لأَجلِ إنقاذِها عندَ الضرورة، كأَكْلِ الـمَيْتَةِ في الـمَجاعة، وشُربِ شيءٍ من الخمرِ إذا غَصَّ بلُقمة _ولم يَجدْ غيرَها_ مع لعنةِ الله لشاربِ الخمر، ومع حُرمةِ الجلوسِ على مائدةٍ فيها خمرٌ ولَوْ لَمْ يَشْربْهَا لقولهِ ﷺ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخمر» رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
فحافظوا على أَنفُسِكمْ ولا تُلقوا بها إلى التَّهْلُكَةِ، قال تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وحافظوا على كُلِّ نفسٍ حرّمَ اللهُ العُدوانَ عليها قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وقال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
إخوةَ الإيمان:
كما يحافظُ المسلمُ على حياتهِ فليحافظْ أيضاً على حياةِ غيرِه، طَمَعاً في ثوابِ إِحياءِ النفوس، فإذا رأى من تَعَرّضَ لخَطَرٍ يُهَدِّدُ حياتَهُ فليبادرْ إلى إنقاذِها ما دامَ قادراً على ذلك، ولكنْ بعضُ حالاتِ الخَطَرِ تحتاجُ إلى شيءٍ من العِلْمِ والتدريبِ قبلَ مُبَاشرةِ الإنقاذِ، حتى يكونَ الإنقاذُ مفيداً ينفعُ المصابَ ولا يَضُرُّه ولا يَضُرُّ الـمُنْقِذ، فلنحرصْ قدرَ الاستطاعةِ على حُسْنِ التصرفِ عندَ حدوثِ المكروه _لا سَمَحَ الله_، وذلك بالاتصالِ السريعِ بالجهةِ الـمَعْنِيَّةِ، كالإسعافِ والدفاعِ المدني ونحوِهما، وبإعانةِ هذه الجهاتِ للوصولِ إلى مكانِ الحادث، لأنَّ بعضَ النّاسِ يَتجمهرونَ للفُرجةِ والتصويرِ فَيَسُدُّونَ الطُرقَ، ويعوقونَ المسعفينَ عن الوصولِ إلى المصابين، وهي ظاهرةٌ سيئةٌ ينبغي التعاونُ على مُعالَجَتِها.
وكذلك بالاستعدادِ الـمُبَكِّرِ بالتَّدَرُبِّ على بعضِ المهاراتِ التي تساعدُ على التدخلِ الصحيحِ في مثلِ هذهِ المواقفِ، كمهارةِ إنقاذِ الغَريق، أو إخراجِ ما يَسدُّ مجرى النَفَس من طعامٍ أو غيرِه، والتعاملِ مع مَن يُصابُ بِلَدْغَةِ حَيّةٍ أو عَقْرَب، أو بُجرحٍ ينزفُ، وما شابهَ هذه الإصابات التي لا تحتملُ التأخيرَ الطويل، فكمْ من أُسَرٍ وَقفتْ عاجزةً أمامَ أحبابِها وأرواحُها تَفيضُ أَمامَها غَرَقاً أو اختناقَاً أو تَسمُّماً بسببِ نَقصِ العِلم والخِبرة. وكم من أَنْفُسٍ أُنقِذتْ في لحَظَات يَسيرة، تعرضتْ لنفسِ تلك المواقفِ بفضلِ الله _أولاً وأخيراً _ثم بوجودِ من يُحسِنُ التعاملُ معَ تلكَ الظروفِ العسيرة.
اللهم إنا نعوذ بالله مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، ونسأله العفو والعافية والمعافاة الدائمة، في الدنيا والآخرة، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله وتأمّلوا قولَهُ تعالى “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” ففيهِ من المعاني الجليلةِ الشيءُ العظيم، منها: أَنَّ ثوابَ إحياءِ نفسٍ واحدةٍ كثوابِ إحياءِ الأَنْفُسِ جميعِها، ومنها أَنَّ إحياءَ النفسِ ليسَ محصوراً في صورةٍ واحدةٍ، فمَن عفا عن القاتلِ ولم يقتصَّ منه فقد أَحياه، فليُبْشرِ العافونَ عن الدماءِ الـمُسْتَحَقَّةِ لهم لوجهِ اللهِ بالأَجرِ الجزيلِ والثوابِ العَظيم، ومن أَنقذَ نفساً من الحَرَقِ أو الغَرَقِ أو مِن إصابةِ حادِثٍ أو غَيرِه فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً، فهنيئاً للعاملينَ في الطِّبِّ والإسعافِ والدفاعِ المدنيّ والأَمْنِ الذين جُلُّ أَعمالِهم إنقاذُ الأرواحِ وإحياؤُها، هنيئاً لهم بالثوابِ والأَجرِ متى حَسُنتْ نياتُهم ومقاصدُهم.
ومن معانيها التي رُويتْ عن بعضِ السَّلَفِ فضلُ إحياءِ النفسِ الميتةِ بالكُفرِ بدعوتِها وإرشادِها إلى الإسلامِ، وتلك هي الحياةُ الحقيقيّةُ فلا حياةَ إلا بالتوحيدِ الخالص، قال تعالى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا _أي كافراً ضالاً _ فَأَحْيَيْنَاهُ _أي بالإسلام والقرآن_ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فهنيئاً لمن هدى اللهُ على يديهِ ولو نفساً واحدة.
اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ، وَالْفُسُوقَ، وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، إِلَهَ الحَقِّ.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامَنا ووليَّ عهدِه بتوفيقِك وأَيِّدْهُم بتأَييدِك وارزقهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ربَّ العالمين. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.