العنوان : من قصص الأنبياء قصة يونس بن متّى عليه السلام خطبة مكتوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله جل وعلا، وأقبلوا على كتاب ربكم تلاوة وتدبراً، قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وإن من المواضيع الكبرى في القرآن الكريم قصص الأنبياء والمرسلين، وقد قصها الله علينا لنعتبر بها كما قال سبحانه {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي قصها علينا لنتذكره ونتعظ بها.
وإن من قصص القرآن الكريم قصة يونس بن متى عليه الصلاة والسلام وقصة قومه. وقد ذكر الله تعالى يونس في آيات من كتابه الكريم فقال تعالى مفصِّلاً قصته في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}
كما ذكر الله قصة التقام الحوت له وما دعا به في بطنه في سورة الأنبياء فقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
وذكر الله تعالى اختصاص قوم يونس بكشف العذاب عنهم بعد انعقاد أسبابه لما آمنوا في سورة يونس فقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] وقال تعالى آمراً لنبيه محمد ﷺ بالصبر التام لحكم ربه، ناهياً له أن يكون منه ما كان من يونس عليه السلام من الحال التي أدت به إلى أن يلتقمه الحوت. فقال تعالى في سورة القلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48 – 50]
ونوه الله جلّ وعز باسمه وبشأنه في آيات أخرى فذكره الله في سورة النساء في الموضع الذي نص فيه على ثلاثةَ عشر رسولاً كريما ًهو أحدهم قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}
ونوّه بشأنه في سورة الأنعام حيث سمى الله تعالى ثمانيةَ عشر رسولاً في سياق واحد وأمر نبيه ﷺ بالاهتداء بهداهم فقال تعالى بعد أن ذكر جملة من الرسل {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} ثم قال بعد ذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فصلى الله على نبينا محمد وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم عليهم أتم التسليم. وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ثم إن قصة يونس وقومه مشتملة على كثير من الفوائد والعبر والعظات ومنها:
أولاً: عظم شأن يونس بن متّى عليه السلام فإنه من المرسلين اصطفاه الله واجتباه وفضله على كثير من المؤمنين. فلا يتوهمن متوهم أنه خير من يونس عليه السلام، فإن بعض الناس ربما إذا قرأ قصته نسبه إلى العيب والنقص، وظن في نفسه أنه خير منه وحاشاه، قال ﷺ ” مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ” متفق عليه. ولمسلم أن الله تعالى قال: ” لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ”.
ثانياً: أن الأنبياء والرسل لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً بل أقدار الله فيهم جارية، وأحكامه فيهم ماضية، ولذا لما قدّر الله على يونس هذا البلاء العظيم فالتقمه الحوت، لم يستطع دفعه عن نفسه حتى فرّج الله عنه كربته.
وإذا كان هذا حال الرسل فغيرهم من الإنس والجن من باب أولى، ومن كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فإنه لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يدعى ويُعبَد ويُستغاث به. بل ما بعث الله الرسل إلا للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه كما قال تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
ثالثاً: عظم شأن دعوة ذي النون حين نادى ربه في الظلمات ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل فقال {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقد اشتمل هذا النداء على ثلاث جُمَل:
الأولى: كلمة التوحيد لا إله إلا أنت أي لا أحد يستحق العبادة سواك يا ربي.
الجملة الثانية: تنزيه الله أن يكون له شريك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، وتنزيه الله تعالى عن كل صفة نقص أو عيب. وهذا معنى قوله سبحانك.
الجملة الثالثة: الاعتراف بالذنب والتقصير في جنب الله تعالى وذلك في قوله (إني كنت من الظالمين) فكانت عاقبة هذا الدعاء الكريم أن نجاه الله كما قال سبحانه {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وفي قوله تعالى (وكذلك ننجي المؤمنين) بشارة لكل مؤمن إلى قيام الساعة أنه من التجأ منهم بصدق إلى الله أجاب الله دعوته وفرج غمه وكربته، فاحرصوا _عباد الله_ على هذا الدعاء ففي الحديث ” دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ” رواه أحمد.
رابعاً: أن العبادة والطاعة والاستقامة في أيام الرخاء والسرّاء من أسباب النجاة في ساعات الشدة والضراء لقوله تعالى (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لولا أنه كان من أهل الذكر والتسبيح والطاعة أيام رخائه لكان بطنُ الحوت قبرَه إلى يوم البعث. وفي الحديث قال ﷺ (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
رزقني الله وإياكم تدبر كتابه، والاعتبار بقصصه وعظاته، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين . اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المسلمين والحمد لله رب العالمين.