العنوان : من أسباب التنازع والتفرق في الدين خطبة مكتوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن من سنن الله تعالى في خلقه وقوعَ الاختلاف بينهم كما قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} وقال تعالى عن اليهود {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقال عن النصارى (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وقال صلى الله عليه وسلم (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)
ومع كون الاختلاف المذموم واقعاً لا محالة فقد نهينا في الكتاب والسنة عن الوقوع فيه، وعن التشبه بالمختلفين من الكفرة والمشركين فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقال تعالى {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وقال تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وقال صلى الله عليه وسلم ” إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم: أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ” رواه مسلم
عباد الله: إن هذا الاختلاف المذموم المنهي عنه له أسباب كثيرة منها: البغي والعدوان كما قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وقال تعالى{وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فالبغي والعدوان ومجاوزة الحد من أسباب الفرقة والاختلاف المفضية إلى رد الحق، و إلى الحكم ظلماً على المخالف بالكفر أو البدعة أو الفسق أو الفجور، وإلى العدوان على الأنفس والأعراض والأموال بغير وجه حق.
ومنشأ البغي والعدوان والظلم: فسادُ القلب وانطواؤه على الإرادة السيئة كحب العلو في الأرض، واتباعِ الهوى في طلب الشرف والرئاسة والغلبة والمال، وكره الخير للغير والمساءة أن يكون الحق معه والفضلُ له.
عباد الله: ومن أسباب التفرق المذموم والاختلاف والتنازع الذي حرمه الله ورسوله: الخوض في القضايا المتنازع فيها بالجهل فمنهم الجاهل الذي لا يميز بين الحق والباطل أصلاً، ومنهم الجاهل بحقيقة قول الخصم الذي يختلف معه، ومنهم الجاهل بالحكم الذي يستحقه ذلك المختلَف معه. ومنهم الجاهل بالأسلوب الشرعي الذي تعالج به تلك القضية من الخلاف والنزاع.
وكل أمر يكون نتيجة جهل فإن الفساد الذي يترتب عليه أعظم من المصلحة المرجوة منه قال تعالى عن النصارى {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي لما أضاعوا العلم وتركوا العمل بما أمروا به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإنما قص الله علينا خبرهم لنعتبر بهم فنتجنب الأسباب التي أهلكتهم.
عباد الله:
إن الظلم والجهل هما أساس كل بلاء وما يفسد الدينَ والدنيا شيء مثل الجهل والظلم وهما خصلتان وصف الله بهما الإنسان فقال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وإذا كان لكل داء دواءً فإن دواء الجهل هو العلم النافع الذي ينير البصيرة ويورث الخشية فتصلح به العلانية والسريرة، ودواءَ الظلم هو تحري العدل ولزومُه في الغضب والرضا والحب والبغض وفي حال الموافقة وحال المخالفة.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَظلم أو نُظلم ونعوذ بك أن نَجهل أو يُجهل علينا إنك سميع الدعاء أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله ثم اعلموا أن الاختلاف والتفرق في الدين كما أن له أسباباً فكذلك له نتائج قبيحة، وثمرات خبيثة، منها: مخالفةُ الأمر بالاجتماع على الحق والاعتصام به والتمسك بالكتاب والسنة. وكفى بذلك خطراً وضرراً، وهلاكاً في العاجل والآجل. قال تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ومن آثاره السيئة: رد الحق وعدم قبوله فترى المختلفين يرد بعضهم ما عند البعض من الحق وقد تبين له أنه الحق بسبب العداوة والخصومة. ومن رد الحق بعد ما تبين عوقب بعدم التوفيق له بعد ذلك إلا أن يشاء الله، وكتبت عليه الذلة والصغار جزاء وفاقاً كما تكبر عن قبول الحق.
ومن آثاره السيئة: الانشغال عن كثير من الطاعات والعبادات كطلب العلم وتعليمه والعمل به والدعوة إليه والاشتغال بنوافل الطاعات من صلاة وصيام وتلاوة وغير ذلك من أبواب الخير، ولذا جاء الأمر النبوي بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل نزول الفتن لأنها إذا نزلت أشغلت الناس عن كثير من الأعمال الصالحة قال صلى الله عليه وسلم «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم..» رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم «عبادة في الهرج كهجرة إلي» رواه مسلم وإنما عظم أجرها لقلة المشتغلين بها عند الهرج واختلاط الأمور وانشغال الناس بعضهم ببعض.
إخوة الإسلام:
إن علاج التنازع والاختلاف في الدين لا يكون إلا بالرد إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم أي بالرد إلى كتاب الله جل وعلا و إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فبالرد إلى الكتاب والسنة، على نور من فهم الراسخين من علماء الأمة، مع الإرادة الصالحة والرغبة الصادقة والخضوع للحق والتواضع له متى تبين ينقطع التنازع وتجتمع القلوب على الحق والخير بإذن الله.
معاشر المؤمنين وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير سيد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين اللهم صل وسلم عليه وعلى خلفائه الراشدين وأزواجه وأهل بيته وعامة أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك وأيدهم بتأييدك وأصلح لهم البطانة، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه ولا تجعله ملتبسا عليهم فيضلوا. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.