إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن من نعم الله على عبده أن يمن عليه بنعمة الفراغ من الأشغال والارتباطات اللازمة كالوظيفة والتجارة والدراسة النظامية ونحو ذلك مما لا بد منه. لأن الفراغ يمكن استغلاله وعمارته بالطاعات والقربات والمصالح الدينية والدنيوية التي يعوق عنها الشغل الذي لا بد منه.
ولكن نعمة الفراغ تفوت أرباحها على كثير من الناس كغيرها من النعم التي تفلت من اليد قبل أن تستغل الاستغلال الأمثل وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري.
وحتى لا يغبن المسلم ويخسر فراغه فقد أرشده الحريص عليه أشد الحرص محمد صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة إلى ملأ الفراغ بما ينفع فقَالَ صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه وهي موعظة لكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة ” اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”. رواه الحاكم وصححه.
ومن أوقات الفراغ ومواسمه أوقات الإجازات الرسمية من الوظائف والأعمال والدراسة النظامية، فهذا الفراغ سواء طالت الإجازة أو قصرت هو جزء من العمر الذي ستسأل عنه يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا فَعَلَ بِهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ، فِيمَا أَبْلَاهُ» رواه الترمذي والدارمي واللفظ له وقال الترمذي حسن صحيح.
والأصل في الفراغ أن يعمر ويملأ بما ينفع كما قال تعالى (فإذا فرغت فانصب) “أي: إذا تفرغت من أشغالك، ولم يبق في قلبك ما يعوقه، فاجتهد في العبادة والدعاء”.
وها نحن في هذه الإجازة قد تخفف كثير منا ومن أبنائنا وبناتنا من انشغال الفكر والقلب والجسد بالأعمال الرسمية والدراسة النظامية فلنحرص غاية الحرص على ملأ هذا الفراغ بالنافع المفيد في أمر الدين والدنيا.
ومن ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات التي كانت الأشغال اللازمة تعوق عنها كلياً أو جزئياً كصيام النافلة ففي الصيام تكفير الذنوب ورفعة الدرجات وصحة الأبدان واستجابة الدعوات، و منها قيام الليل الذي وعد الله أهله بالجزاء الخفي الذي تقر به أعينهم يوم القيامة، ومنها الاستكثار من تلاوة القرآن الكريم ، ومنها شد الرحال إلى الحرمين الشريفين للصلاة فيهما فالصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة والصلاة في الحرم المكي بمائة ألف صلاة. ومنها السفر للعمرة فالعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما.
ومنها صلة الأرحام بزيارتهم والجلوس معهم والالتقاء بهم فصلة الأرحام من محاسن الإسلام ومن أسباب دخول الجنات وطول الأعمار وسعة الأرزاق.
ومنها زيارة الإخوان في الله تعالى طلباً لأجر الزيارة في الله وثوابها ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى و”َجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ” رواه مالك وأحمد. ومن فوائد هذه الزيارات مذاكرة العلم النافع والتواصي بالبر والتقوى وبالحق وبالصبر عليه.
ومن الأعمال الطيبة التي يستغل بها الفراغ الرحلة إلى أهل العلم لمجالستهم والتعرف عليهم والاستفادة منهم والدارسة عليهم واستفتائهم والاستفادة من هديهم وسمتهم ممن كان عاملاً بعلمه متخلقاً بأخلاقه متأدباً بآدابه.
فالرحلة في طلب العلم ولقاء أهله من سنن السلف الصالح وقد قص الله في كتابه قصة رحلة موسى عليه السلام للقاء الخضر ليتعلم منه بعض ما علّمه الله. ومن فوائد هذه القصة أن يحرص طلاب العلم على لقاء أهل العلم ولو بالرحلة إليهم.
ومن الأعمال الطيبة التي يستغل بها الفراغ الاجتهاد في بر الوالدين والقيام بخدمتهما فإن الدوام الدراسي أو الوظيفي كثيراً ما يشغل الأبناء والبنات عن آبائهم وأمهاتهم فهذه فرصة مناسبة للجد والاجتهاد في هذا الباب الواسع من أبواب دخول الجنة. ومن برهم زيارتهم والجلوس إليهم والحديث معهم وخدمتهم وإدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم.
ومن الأعمال الطيبة التي يستغل بها الفراغ في الإجازة تكثيف جلوس الآباء والأمهات مع أبنائهم وبناتهم فإننا في وقت قلّ فيه تواصل الأسرة في البيت الواحد إما لموانع حقيقية وإما لتفريط وتساهل. فلنستغل هذه الإجازة لمعالجة هذا الخلل. لأن عدم التواصل يولد الجفاء والوحشة بين الأسرة الواحدة حتى إنهم ربما إذا جلسوا جلسوا كالغرباء لا مودة ولا ألفة ولا انسجام، كما أنه يعرّض الأبناء والبنات للفشل الدراسي والانحراف الأخلاقي والضعف الديني.
ومن الأعمال الطيبة التي يستغل بها الفراغ قراءة الكتب النافعة المفيدة السليمة من الانحرافات العقدية والأخلاقية.
والمقصود أيها الإخوة في الله أن نحرص على عمارة الوقت بما ينفع في أمر دين أو أمر دنيا حتى لا نخسر هذا الجزء الثمين من العمر.
بارك لله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان واقتفى أثرهم. وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واحذروا من الفراغ أن يملأ بما يغضب الله تعالى فإن بعض أبنائنا وبناتنا تذهب لياليهم في السهر وأيامهم في النوم مما يترتب عليه تضييعهم لركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين وهو الصلاة إما بتركها بالكلية وإما بترك الجماعة وإما بتأخيرها عن وقتها وما أسوء من كان هذا حاله فقد ذم الله هذا الصنف وتوعدهم فقال تعالى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }
وبعضهم يقضي وقته في تصفح الانترنت بأنواعه مقرءوا ومسموعاً دون تمييز بين ما يضر وما ينفع مما يجرهم إلى خطر كبير يفسد عقائدهم حتى ربما أخرجهم من الإيمان إلى الكفر ومن اليقين إلى الشك. أو من السنة إلى البدعة، وربما جرهم إلى الانحراف الأخلاقي والعلاقات المحرمة والوقع في فواحش الخلوة والزنا والسحاق وعمل قوم لوط والعياذ بالله فإن هذه الشبكة سوق مفتوح يجلب فيه كل شيء دون قيود ولا حدود ولا ضوابط والعياذ بالله.
وربما جرهم إلى الإرهاب والتكفير واستحلال الدماء والعداوة لولاة الأمور والسعي في تخريب الأوطان بحجة الجهاد وإنكار المنكر.
فلا بد من التوجيه والإرشاد والتعليم والمتابعة والرقابة حتى لا تجرهم هذه الشبكة ووسائل التواصل إلى الهلاك والخسار في الدنيا والآخرة.
ومما تلام عليه كثير من الأسر تساهلها في الأخذ على يد نسائهم وبناتهم فكان من جراء ذلك كثرة مظاهر التبرج والسفور والخروج إلى الأسواق والمطاعم والمجامع العامة بكامل الزينة والعطر والفتنة. فماذا ينتظر من وراء هذا التساهل والتمادي. هل ننتظر من وراء ذلك رضا الله والجنة وبركة الأعمار والأرزاق ، وانتشار العفة والطهر؟ لا والله بل هذا التساهل إنما يجر إلى خلاف ذلك فلنحذر عباد الله من أسباب سخط الله وليقم كل منا بواجبه تواجه أسرته وأبنائه وبناته.
ولنتذكر أننا موقوفون بين يدي الله وأننا مسؤولون عنا أنفسنا وعن أهالينا ولنعد لذلك المقام جواباً. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
اللهم بارك في أعمارنا واستعملنا في طاعتك وجنبنا معصيتك وأسباب غضبك ووفقنا لصالح الأقوال والأعمال في السر والجهار والليل والنهار. اللهم احفظ علينا وعلى أبنائنا وبناتنا الدين والإيمان وصالح الأخلاق والعفة والطهر وجنبنا وإياهم الفواحش والمنكرات والزيغ والضلال برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك وبارك له وللمسلمين في ولي عهده وانصر بهم الإسلام والسنة ورافع بهم منار الحق واقمع بهم الباطل وأهله إنك سميع الدعاء.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.