العنوان : آخر سورة الزمر : موعظة وذكرى
فإن من المواعظ العظيمة التي اشتمل عليها القران العظيم ما جاء في آخر سورة الزمر من ذكر يوم القيامة وانقسام الناس فيه الى فريقين سعداء وأشقياء فريق في الجنة وفريق في السعير تخويفاً للعباد وتذكيرا لهم بيوم العباد حتى يتزودوا له بخير الزاد إلا إن خير الزاد التقوى.
قال تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} .
الصور قرن عظيم، لا يعلم عظمته إلا خالقه، ومن أطلعه الله على علمه من خلقه، فينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، أحد الملائكة المقربين، وأحد حملة عرش الرحمن. فإذا نفخ فيه مات {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ} لشدة صوتها وإفزاعها {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} من خلقه.
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ ينظرون} أي: قاموا من قبورهم لبعثهم وحسابهم، قد تمت منهم الخلقة الجسدية والأرواح، وشخصت أبصارهم {يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون ماذا يفعل الله بهم.
{وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي يكون الناس في ظلمة عظيمة الشمس قد كورت والنجوم اندثرث والكواكب انتثرت فإذا جاء ربنا للفصل بين عباده أشرقت الارض بنوره سبحانه.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: كتاب الأعمال وديوانه، وضع ونشر، ليقرأ كل عبد ما له من الحسنات و ما عليه من السيئات، كتاب يحصي على العبد مثاقيل الذر من الخير والشر كما قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} ويقال للعامل من تمام عدل الله وإنصافه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}
وحتى تتم الحجة وينقطع العذر على الأمم المكذبة {جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} في ذلك اليوم ليُسألوا عن التبليغ، وعن أممهم، فيشهدوا عليهم أنهم بلغوهم فأنذروا من عصى وبشروا من أطاع . وجيء ايضا بالشهداء من الملائكة الكاتبين الحافظين فتشهد عليهم بما كتبوا ودونوا ، ومن الشهداء الأعضاء: الأيدي والأرجل والجلود فتنطق بما جرحت ، ومن الشهداء الأرض التي أطاع عليها الطائعون وعصى عليها العاصون (يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها) فلا مجال للإنكار ولا سبيل إلى التحايل
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي: بالعدل التام (وهم لا يظلمون) فلا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}
ولما كان الناس في الدنيا مفترقين بين مؤمن وكافر وبر وفاجر فرق الله بينهم يوم القيامة فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} أي: سوقا عنيفا، يضربون بالسياط الموجعة، من الزبانية الغلاظ الشداد، إلى شر محبس وأفظع موضع، وهي جهنم التي قد جمعت كل عذاب، وحضرها كل شقاء، وزال عنها كل سرور، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يدفعون إليها دفعا، وذلك لامتناعهم من دخولها. ويساقون إليها {زُمَرًا} أي: فرقا متفرقة، كل واحد مع المجموعة التي تناسبه وتشابهه وهم في أثناء ذلك يلعن بعضهم بعضا، ويبرأ بعضهم من بعض. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا إلى ساحة النار {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ليذوقوا الهوان والذل والعذاب
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} مهنئين لهم بالشقاء الأبدي، والعذاب السرمدي، وموبخين لهم على الأعمال التي أوصلتهم إلى هذا المحل الفظيع: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي: من جنسكم تعرفونهم وتعرفون صدقهم {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} التي أرسلهم الله بها، الدالة على الحق اليقين بأوضح البراهين. {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} أي فلم لم تتقوا شر هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح {قَالُوا} مقرين بذنبهم، وأن حجة الله قامت عليهم: {بَلَى} قد جاءتنا رسل ربنا بآياته وبيناته، وبينوا لنا غاية التبيين، وحذرونا من هذا اليوم. {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي بسبب كفرهم وجبت عليهم كلمة العذاب، التي هي لكل من كفر بآيات الله، وجحد ما جاءت به المرسلون، فاعترفوا بذنبهم وقيام الحجة عليهم./font>
فـ {قِيلَ} لهم على وجه الإهانة والإذلال: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} كل طائفة تدخل من الباب الذي يناسبها ويوافق عملها. {خَالِدِينَ فِيهَا} أبدا، لا يظعنون عنها، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا ينظرون. {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: بئس المقر، النار مقرهم، وذلك لأنهم تكبروا على الحق، فجازاهم الله من جنس عملهم، بالإهانة والذل، والخزي. نعوذ بالله من النار ومن حال أهل النار أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فلما ذكر الله مساق أهل النار وما أعد لهم من الذل والمهانة ذكر مساق أهل الجنة وما أعد لهم من العز والكرامة فقال سبحانه : {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} بتوحيده والعمل بطاعته، سوق إكرام وإعزاز، يحشرون وفدا على نياق كرام. {إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} فرحين مستبشرين، كل زمرة مع الزمرة، التي تناسب عملها وتشاكله. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا لتلك الرحاب الرحيبة والمنازل الأنيقة، وهبَّ عليهم ريحها ونسيمها، وحان خلودها ونعيمها. {وَفُتِحَتْ} لهم {أَبْوَابُهَا} فتح إكرام، لكرام الخلق، ليكرموا فيها. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تهنئة لهم وترحيبا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: سلام عليكم من كل آفة وشر {طِبْتُمْ} أي: طابت قلوبكم بمعرفة الله ومحبته وخشيته، و طابت ألسنتكم بذكره، و طابت جوارحكم بطاعته. {فـ} بسبب طيبكم {ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} لأنها الدار الطيبة، ولا يليق بها إلا الطيبون.
{وَقَالُوا} عند دخولهم فيها واستقرارهم، حامدين ربهم على ما أولاهم ومنَّ عليهم وهداهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي: وعدنا الجنة على ألسنة رسله، إن آمنا وعملنا صالحا، فوفَّى لنا بما وعدنا، وأنجز لنا ما منَّانا. {وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ} أي: أرض الجنة {نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي: ننزل منها أي مكان شئنا، ونتناول منها أي نعيم أردنا، ليس ممنوعا عنا شيء نريده. {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الذين اجتهدوا بطاعة ربهم، في الدنيا وهي زمن قليل منقطع، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا.
{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حمده في ذلك اليوم جميع الخلق على ما قضى به على أهل الجنة حمد فضل وإحسان و على ما قضى به على أهل النار، حمد عدل وحكمة. اللهم اجعلنا من أهل الجنة ولا تجعلنا من أهل النار.
معاشر المؤمنين صلوا وسلموا ..