إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد:
فإن الله تعالى شرع الجهاد رحمة للعباد حتى يَخرُجَ الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، وحتى يأمنوا من عذاب النار ويفوزوا بنعيم الجنة.
لا بإكراه الكفار على الإسلام ولكن لأن الجهاد تسبقه الدعوة إلى الإسلام وشرح مبادئه ومحاسنه فإن أسلموا فهذا غاية المراد وإن أبوا لم يجبروا عليه ولكن يعرض عليهم الخضوع لحكم المسلمين ويقرون في بلادهم آمنين مقابل جزية غير مرهقة يدفعونها وهم صاغرون. فإن أبوا استعان المسلمون ربهم وقاتلوهم لأنهم برفضهم يصدون الناس عن دين الله فلا تصل إليهم حقيقته.
وفي الجهاد المسلح _ كما هي طبيعة القتال_ يحصل فيه قتل المقاتلين وأسر المنهزمين والمستسلمين وسبي النساء والذرية. ولكنّ الإسلامَ الدينَ الحنيفَ دينٌ كريم دين عظيم سام بأخلاقه حتى مع أعدائه وخصومه لا يغفل جانب رحمتهم والإحسان إليهم في أرض المعركة أو في حال الأسر أو في حال السبي ..
وفي هذا المقام أستعرض جانباً واحداً من جوانب عظمة الإسلام وسمو أخلاقه ألا وهو فيما يتعلق بالتعامل مع الأسرى والسبي من خلال مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين قاموا بأمر الجهاد حقاً وصدقاً الذين كان جهادهم صورة مشرقة جعلت أعداء الإسلام من أشد أبنائه المخلصين له لا جهاد الخوارج وخلفهم من القاعدة وداعش والنصرة وأمثالهم الذين شككوا كثيراً من أبناء المسلمين في حقيقة دينهم فضلاً عن أن يكون في جهادهم المزعوم دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
يقول تعالى في صفة عباده الابرار: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" وفي هذه الآية يثني الله على الابرار من عباده أنهم يحسنون إلى من في ايديهم من أسرى المشركين فيطعمون الطعام مع حاجتهم إليه فهم يؤثرون الأسير ولو كان كافراً على أنفسهم لأنه في حالة ضعف. طعامه وشرابه رهن أيديهم لا يملك لنفسه شيئاً . فلم تبطرهم القوة ولم تطغهم نشوة الانتصار. يفعلون ذلك لأنهم يريدون ما عند الله من الأجر والثواب الذي أعده للمحسنين لذا كانوا يقولون بلسان الحال لا المقال : (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً).
وحين أسر المسلمون سبعين أسيراً من مشركي قريش ومن معهم في غزوة بدر أحسن إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالإحسان إليهم فامتثل الصحابة أمره أحسن ما يكون الامتثال كما قال قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر رسول الله أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأسارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء.
وهذا حامل راية المشركين في بدر أبو عزيز بن عمير يقول حاكياً ما جرى له بعد أن أسره رجل من الأنصار : كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها فيردها علي ما يمسها.
لقد بلغ حسن التعامل معهم أن آثروهم بأفضل ما يجدون من الطعام في أيديهم. وهم الذين بالأمس عذبوهم وقتلوهم وشردوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه قد يمن على الأسير بلا مقابل وقال يوم بدر "لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى _ يعني الأسرى_ لتركتهم له" أي لو شفع فيهم المطعم بن عدي وكان من سادات قريش ومات على الكفر ولكن كانت له يد على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه سعى في نقض صحيفة بني هاشم صحيفة الظلم والعدوان فيقول لو شفع في الاسرى لأطلقتهم إكراماً له بلا مقابل مكافأة له على حسن صنيعه.
و كان ينهى عن إلحاق الأذى الجسدي بالاسير فإنه لما نقض بنو قريظة العهد وخانوا الله ورسوله وأعانوا العدو على المسلمين حكم فيهم سعد بحكم الله أن يقتل رجالهم فجمعوا لضرب أعناقهم جزاء وفاقاً فحصل أن بعض المسلمين ضرب رجلاً من اليهود على أنفه فأرعفه فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : «أحسنوا إسارهم وقيّلوهم _ أي مكنوهم من القيلولة_ واسقوهم، حتّى يبردوا، فتقتلوا من بقي، لا تجمعوا عليهم حرّ الشّمس وحرّ السّلاح».
ولما قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم خطيبا في قومه أبدا، فقال: «دعه فلعله أن يسرك يوما» وفي رواية قال له : "لا أُمثِّل فيمثل الله بي وإن كنت نبياً".
وكان صلى الله عليه وسلم يكسو الأسرى فيحسن كسوتهم قال البخاري في صحيحه باب الكسوة للأُسارى ذكر فيه أن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: لمَّا كان يوم بدرٍ أُتِيَ بأسارى، وأُتِيَ بالعبَّاس، ولم يكن عليه ثوبٌ فنظر النبي له قميصًا فوجدوا قميص عبد اللَّه بن أبيٍّ يَقْدُرُ عليه فكساه النبي إيَّاه..."
وروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رجلاً إلى مكة يشتري ثياباً يكسو بها سبي هوازن.
ولسماحته مع الأسرى وحسن خلقه معهم كانوا يالفونه ويتحدثون معه ويحاورونه وهو يجيبهم ولا يضيق صدره بهم عليه الصلاة والسلام ففي صحيح مسلم عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيلٍ، فأَسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله ، وأسر أصحاب رسول الله رجلاً من بني عُقيلٍ، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق قال: يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاجِّ _ يعني الناقة_ ؟ فقال: "إِعْظَامًا لِذَلِكَ. أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ".
ثمَّ انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. وكان رسول الله رحيمًا رقيقًا فرجع إليه، فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي مسلمٌ. قال: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ".
ثمَّ انصرف فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي جائعٌ فأطعمني، وظمآن فاسقني. قال: "هَذِهِ حَاجَتُكَ" . أي كأنه يقول أبشر بحاجتك من الطعام والشراب فهي حاضرة يؤتى بها لك الآن.
ولما أُسر ثمامة بن أثال ورُبط في سارية من سواري المسجد خرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، فقال: «أطلقوا ثمامة» فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغضَ إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن إلحاق الأذى الجسدي بالاسرى كان أيضاً يخفق قلبه رحمة فينهى عن الإيذاء النفسي فقد أتاه أبو أُسَيْدٍ الأنصاري بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله ، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله لأبي أُسيد: "فلتأتيني به كما بعته". فركب أبو أسيد فجاء به. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم ( من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).
نعم أيها الإخوة في هذه الأخلاق العالية تتجلى لنا محاسن الجهاد في الإسلام ومعالم الرحمة في أخلاق سيد الأنام. لقد أسر أجساد عدوه نعم ولكنه أسر قلوبهم بحسن أخلاقه وبرحمته وبعدله وبكرمه فانقادوا طوعاً فدخلوا في دينه راغبين غير راهبين. وصدق الله إذ يقول ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد سار الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على الهدي نفسه الذي سار عليه إمامهم صلوات الله وسلامه عليه وهكذا التابعون من بعدهم وهذا ما قرره علماء المسلمين سلفاً وخلفاً فكانوا يقررون الإحسان إلى الأسير وإلى التعامل معه التعامل الشرعي.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما قدم التتار وأسروا كثيراً من المسلمين ومن النصارى سعى سعى في إخراج الأسرى من اليهود والنصارى كما سعى في إخراج الأسرى من المسلمين يقول رحمه الله : " وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان وقطلو شاه وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين . قال لي : لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون . فقلت له : بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ؛ فإنا نفتكهم ولا ندع أسيرا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله . فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله . وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم ؛ كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته : { الصلاة وما ملكت أيمانكم } قال الله تعالى في كتابه : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } . اهـ نعم أيها الإخوة هذا موقف شيخ الإسلام من أسرى اليهود والنصارى في يد التتار ، فأين من يحرق مسلماً حياً ويتلذذ بحرقه ثم يدهس جثته بمعدة ثقيلة ويخرج من مشهد قتله فلماً يعرضه على العالم ثم يفتري على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه هو من افتى بمشروعية هذه الجريمة المنكرة.
إن هؤلاء أعداء الإسلام بشكل عام وأعداء للسنة وعقدية السلف على وجه خاص وما ارادوا إلا تنفير الخلق عنه والعياذ بالله.
اللهم إنا نعوذ بك من شر الخوارج كلاب النار اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك اللهم عليك بالخوارج كلاب النار ومن يسير على دربهم من القاعدة وداعش والنصرة إنك أنت القوي العزيز.
اللهم اكفنا شر كل من يزين طريقتهم ويدعو إليهم ويغر الشباب بهم ويحثهم على الالتحاق بهم تصريحاً أو تلميحاً بلسانه أو قلمه أو ماله أو باي طريقة كانت. اللهم بصر عامة المسلمين وولاة أمورهم بمكرهم وكيدهم واكف المسلمين شرهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
نفع الله بكم وجزاكم الله خيرا
وأطال عمركم على عمل صالح
بارك الله فيكم و جزاكم الله عن المسلمين خيرا و اطال الله عمركم في طاعته
حفظ الله الشيخ علي وبارك في عمره واحسن عمله ونفعنا به