العنوان : 8- التحذير من الفرق الهالكة، وبيان حقيقة الجماعة الناجية المنصورة
عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ) رواه أبو داود ، وقال شيخ الإسلام في المسائل: هو حديث صحيح مشهور، وصححه الشاطبي في الاعتصام وقال ابن حجر في تخريج الكشاف: إسناده حسن . وفي رواية للترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) وفيها ضعف .
راوي الحديث :
معاوية ابن أبي سفيان صخر ابن حرب ابن أمية الأموي أبو عبد الرحمن الخليفة صحابي أسلم قبل الفتح وكتب الوحي ومات في رجب سنة ستين وقد قارب الثمانين
التعليق :
1- الاختلاف والافتراق في الدين سنة من سنن الله الكونية في عباده قال تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). وقال تعالى (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) أي كانوا على الحق لا يعبدون إلا الله فاختلفوا فبعث النبيين بعد اختلافهم لدعوتهم إلى عباد الله وحده، وإذا كان الاختلاف الديني واقع في الأمم بشكل عام فقد بين أهل الكتاب بشكل خاص كما قص الله ذلك علينا في كتابه محذراً لنا أن نقع فيما وقعوا فيه قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) [آل عمران : 19]
وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) [الشورى : 13 – 15]
وقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) [الجاثية : 16 – 18]
وإذا كان الاختلاف الكثير قد وقع في أهل الكتاب فإن الله شهد لفرقة من اليهود وفرقة من النصارى بأنها بقيت على الحق مستمسكة به فقال عن اليهود (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
وقال تعالى عن النصارى: (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) [الحديد : 27].
2- إذا كان الاختلاف الكثير في الدين قد وقع في أهل الكتاب وهذه الأمة أشبه الأمم بهم وأتبعها لهم فإنه سيقع فيها الاختلاف في الدين كما وقع فيهم وقد جاءت جملة من الأحاديث تؤكد اتباع هذه الأمة لسنن اليهود والنصارى ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟» أخرجه البخاري ومسلم.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قيل له : يا رسول الله، كفارس والروم ؟ قال : من الناس إلا أولئك ؟» أخرجه البخاري.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم و حتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه” صححه الحاكم وقال الذهبي صحيح.
ومنها حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول الله أجعل لنا ذات أنوط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه و سلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم . أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
3- كما جاءت جملة من الأحاديث الصحيحة المصرحة بحصول الافتراق في هذه الأمة في الدين افتراقاً كثيراً إلى أن يصل ببعضها إلى الخروج من الإسلام واللحاق بالكفار والعياذ بالله ومن تلك الأحاديث:
حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
وحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء و إنما غربته لقلة المتمسكين بالدين الحق من بين جمهور الناس.
وحديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (و إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين و إذا وضع في أمتي السيف لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة و لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان و إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي و أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي و لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) أخرجه أحمد واللفظ له والترمذي وقال حسن صحيح .
وإخباره بأن الذي سيبقى على الحق طائفة واحدة دليل ظاهر على وجود طوائف أخرى كلها على ضلال والعياذ بالله.
ومنها حديث الباب الذي ينص على وقوع الاختلاف في هذه الأمة اختلافاً يتجاوز اختلاف اليهود والنصارى في عدد الفرق ولم ينفرد به معاوية بل قد جاء عن جماعة من الصحابة منهم عوف بن مالك وأبو هريرة وأنس بن مالك وآخرون وهذه بعض ألفاظ روايات الحديث:
أ- عن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله من هم قال الجماعة . أخرجه ابن ماجه.
ب- عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ج- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة . أخرجه ابن ماجه
د- عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثل بمثل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله إن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها فى النار غير واحدة قيل وما تلك الواحدة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي” أخرجه الحاكم
4- لا تتعارض هذه الأحاديث الثابتة بمجموعها مع الأحاديث الواردة في فضيلة هذه الأمة وأن عددها في الجنة يفوق عدد غيرها من الأمم لأن كثرة الفرق لا يلزم منه أكثرية أفراد الهالكين كثرة تفوق الناجين المستقيمين على السنة، ولأن الضال في الدنيا قد يتجاوز الله عنه ما دام في دائرة التوحيد بمحض فضله أو بتفضله عليه بواسطة شفاعة أو بغير ذلك.
كما أنه قد يقال إن كونهم أكثر أهل الجنة هو باعتبار عاقبة الأمر بعد التمحيص في النار وخروج كل من فيها ممن لقي الله على غير الشرك الأكبر. إذ أن أحاديث الافتراق لم تقل إن الثنتين والسبعين فرقة من المخلدين في النار وإنما قررت أنهم يستحقون دخول النار بسبب ضلالهم وانحرافهم عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم. والحكم باستحقاق النار غير الحكم بالخلود الأبدي فيها كما أن أصحاب الكبائر الشهوانية متوعدون بالنار لكن لا على سبيل التأبيد كما هي عقيدة أهل السنة.
فلا حجة لمن طعن في هذه الأحاديث بدعوى معارضتها لأحاديث فضائل هذه الأمة ما دام الجمع ممكناً والله تعالى أعلم.
5- عقيدة الفرقة الناجية الطائفة المنصورة تقوم على اتباع الكتاب والسنة واتباع آثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيؤمنون بربوبية الله بأنه الخالق المالك المتصرف المدبر للأمر لا يشاركه في ذلك غيره، ويؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. ويمرون نصوص الصفات على ظاهرها التي تدل عليها معانيها دون تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ويؤمنون بألوهية الله فلا يشركون معه في العبادة أحداً سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل وينهون عن البدع والمحدثات في الدين سواء كانت قولية أو عملية ظاهرة أو باطنة.
ويؤمنون بأن الله فوق عرشه بائن من خلقه وأنه يتكلم بما شاء متى شاء ويؤمنون بالقدر خيره وشره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة ويؤمنون بالميزان وبالحوض والصراط وبعذاب القبر ونعيمه وبالشفاعة لأهل الكبائر و بخروج المسيح الدجال ونزول عيسى بن مريم وأن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان وعمل الجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأهله فيه يتفاضلون. وأن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وأن أفضل الناس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون السمع والطاعة للأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً ويرون الحج والجهاد والجمعة والجماعة معهم ومن خرج على الإمام فقد شق العصا وخالف الآثار ومن لقي الله مصراً على كبيرة فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وأن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان إلى غير ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة وقرره أئمة السلف في كتب السنة .