العنوان : النهي عن التسول والحث على بذل الصدقات للمستحقين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
أما بعد إخوة الإيمان:
فإنه مع اقتراب شهرِ رمضان يكثرُ المتسولون في المساجد والطرقات، وهي قضيةٌ جديرةٌ بالعناية والاهتمام، لأن الشرع ذمّ طلبَ المسلمِ للصدقاتِ والزكواتِ والأموالِ من الناس إلا في حدودٍ ضيقة، وأَمرَ بالتعفف عن المسألة، والجدِّ والاجتهادِ في كسب المال الحلال بالطرق التي أذن الله فيها لعباده كالعملِ والتجارةِ ونحوها.
فمما ورد في ذَمِّ المسألة قولُهُ ﷺ ” لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ” متفق عليه. وأخبر ﷺ أن مسألةَ الناسِ من غيرِ ضرورة من أسبابِ الفقرِ والحاجة فقال ﷺ: “من فتح على نفسهِ بابَ مسألةٍ من غيرِ فاقةٍ نزلت به أو عيالٍ لا يطيقُهم فتح اللهُ عليهِ بابَ فاقةٍ من حيثُ لا يحتسب” رواه البيهقي في شُعب الإيمان، وحسنه الألباني.
وليَعلمْ مَن يَسألِ الناسَ من غير ضرورةٍ، إنما ليستكثرَ من الأموالِ أنه متوعدٌّ بنارِ جهنم لقولهِ ﷺ: “من سألَ الناس تَكَثُّرا فإنما يسألُ جَمْراً فَلْيَسْتَقِلَّ أو لِيَسْتَكْثِر” رواه مسلم
وحين منعَ الشرعُ التسولّ حثَّ على الكسبِ والعمل فقال ﷺ: ” لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا ، فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ ” متفق عليه.
وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ أَوْ أَفْضَلُ؟ فقَالَ: عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ ” رواه الطبراني وصححه الألباني.
وكان الأنبياء عليهم السلام وهم القدوةُ للأمم لا يسألون الناس ولكن يعملون ويتسببون فيأكلون من كسب أيديهم، قال ﷺ: ” مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ” رواه البخاري.
وجعلَ النبيُّ ﷺ الساعيَ في الكسبِ لينفقَ على نفسهِ وأهلهِ مثلَ المجاهدِ في سبيل الله، فقد مرَّ على النبي ﷺ رَجُلٌ ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ..” رواه الطبراني وصححه الألباني.
ولـمّا شُرعتِ الزكاةُ نُهِيَ المسلمُ أن يعطيَها للأغنياءِ أو للأقوياءِ القادرينَ على العملِ والاكتسابِ ما دامتْ فُرصُ العملِ موجودة، فقد جاء رجلانِ إلى النبي ﷺ فطلباه الصدقة فرآهما النبي ﷺ جَلْدَيْنِ أي قَوِيّينِ فوعظهما وقال “إِنْ شِئْتُمَا, وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ, وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ” رواه أحمد وقوّاه.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تسألوا الناسَ ما لا يحل لكم سؤالُه، وتَحرَّوا عند إخراجِ زكاتكم، وبذلِ صدقاتِكم، فلا تضعوها إلا في يدِ مَن يستحقها، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المساجد لم تُبنَ للتسولِ ورفعِ الأصوات بعد الجُمَعِ والجماعاتِ، لطلب الصدقات والزكوات، بل بُنيت لإقام الصلاة وذكرِ الله تعالى، قال الخطابيُّ رحمه الله: “وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ عَلَى السَّائِلِ الْمُتَعَرِّضِ فِي الْمَسْجِدِ”.
وقد نهتْ الجهاتُ المسؤولة عن التسول في المساجد، ونهت عن إعطائهم، فالتزموا بهذه الأنظمة، ولا يخفى عليكم أن كثيراً ممن يسألُ في المساجد وعند الإشارات من الرجال والنساء والأطفال ليسوا أصحابَ حاجةٍ حقيقية وإنما عامّتُهم مخالفون لنظام الإقامةِ والعمل، أو يعملون لحسابِ جهاتٍ إجرامية تُشَكِّلُ خطورةً وتهديداً للأمن والسِّلْم، فلا تبذلْ مالكَ يا عبدَ الله لمن لعلّهُ يحاربُك به.
وتحرَّوا الفقراءَ والمساكين، وفتشوا عن المتعففينَ من الفقراء فهم من أولى الناس بالصدقات، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أنّ أولى الناسِ بالصدقاتِ هم الفقراءُ المتعففون عن سؤال الناسِ والتَّعرُّضِ لهم لأن أكثرَ الناسِ لا يَفطِنُ لهم.
معاشر المؤمنين:
صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وخلفائه الراشدين، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، عباد الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ).