العنوان : فضلُ الصحابة رضي الله عنهم وبعضُ ما لهم من الحقوق (خطبة مكتوبة)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته.
معاشر المؤمنين:
إن الله تعالى اختار محمداً ﷺ على العالمين، وفضّله على سائر النبيين والمرسلين، وخَصّهُ بأفضلِ الكتبِ وأكملِ الشرائع، واختارَ له خيرَ الناسِ بعد الأنبياءِ والرسل، فجعلَهمْ لهُ أصحاباً، وأعواناً على الحقِّ وأنصاراً.
كان منهم السابقون الأولون، آمنوا بهِ حين كفرَ الناس، وصدّقوهُ حينَ كذّبهُ الناس، ونصروه حينَ عاداهُ الناس، وفارقوا قومَهم في دينِهم؛ فكانوا فيهم غرباء، أَذلّةً قِلّةً ضعفاء، فتسلّطَ عليهم المشركون، وسامُوهمْ سوءَ العذاب، أَلبَسُوهم أَدْراعَ الحديد، وصَهروهم في شمسِ مكةَ والحرِّ الشديد، منهم سُميّةُ أُمُّ عَمّارِ بن ياسر، وهي امرأةٌ ضعيفةٌ، أُوذِيَتْ في سبيلِ التوحيدِ أذىً عظيماً، يَعْجَزُ عن تحملِّه صناديدُ الرجال، فكانت تأبى إلا الصمودَ على الإسلام حتى قُتِلَتْ شهيدةً سعيدةً، وكانت أَوّلَ شهيدٍ في الإسلام. ومنهم زوجُها ياسر، فقد عُذِّبَ في الله عذاباً شديداً حتى مرَّ عليه النبيُّ ﷺ فقال يا رسولَ الله: الدهرَ هكذا؟ فقال له النبيُّ ﷺ: اصبر، ثم قال: اللهم اغفرْ لآلِ ياسر، وقد فعلتَ” وقال ﷺ: “صبراً آلَ ياسر، فإنَّ موعِدَكمُ الجنة”.
كما يَضرِبُ لنا خبّابُ بنُ الأَرَتِّ مَثَلاً آخرَ من أمثلةِ الصمودِ والثبات على الحق، فقد حاولوه أن يرجع إلى الكفرِ فأبى، فأَحمَوْا له الحجارةَ حتى التهبتْ ناراً، ثم أضجعوهُ على ظهرهِ عليها حتى ذهبَ لحمُ ظهرهِ، فما صدّهُ ذلك عن دينهِ رضي الله عنه وأرضاه.
وأَذِنَ اللهُ بالهجرةِ إلى المدينة، فخرجوا مهاجرين، معَ ما في الهجرةِ من مُفارقةِ الأهلِ والمالِ والوطن، لكنّهم أرخصوا كلَّ ذلك في سبيلِ الهجرةِ إلى اللهِ ورسولهِ ﷺ.
وهناك في المدينةِ استقبلهم الأنصارُ أكرمَ استقبال، وقاسموهم البيوتَ والأموال، بل آثروهم على الأَنفُسِ والعِيال. تضحيةً منهم بأموالِهم في سبيلِ الله، ومحبّةً منهم لإخوانهم في الله، وتحقيقاً للأُخوّةِ التي عقَدَها بينهم رسولُ الله.
ولما اجتمعَ المهاجرونَ والأنصارُ في طَيبةَ الطيبةِ، بقيادةِ رسولِ الله ﷺ، رَمَتْهمُ العَرَبُ عن قَوْسٍ واحدة، فجيّشوا الجيوش، وعقدوا أَلويةَ الحرب، وعزموا على إطفاءِ نورِ الله، فنصرَ اللهُ دينَه، وأيّدَ بالمهاجرينَ والأنصارِ نبيَّه، فجاهدوا في الله حقَّ الجهاد، وكانت الأيامُ بينهم مُداوَلة، مَرّةً لهم، ومَرّةً عليهم. نصرهمُ الله في بدرٍ والخَندَقِ وغيرِها، وابتلاهمْ في أُحُد فقُتِل منهم سبعون، وابتلاهم في بئرِ مَعُوْنَةَ فَقَتلَ المشركون سبعينَ مِن خيارِ الأنصارِ، من أصحابِ النبي ﷺ خَتْراً وغَدْرَاً. وبعد ابتلاءٍ وتمحيصٍ جعلَ اللهُ لهم العاقبة، وفتحَ لهم مكة، ودخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجاً.
ثم قام الصحابة رضي الله عنهم بعملٍ عظيمٍ كعَظَمَةِ جهادِهم وصبرِهم على الابتلاء أَوْ أَكبر، فحفظوا القرآنَ والسنةَ حفظاً متقناً، ثم نقلوهما لمن بعدَهمْ حتى وصَلَنا الدينُ الإسلاميّ كاملاً لا نقصَ فيه، نقيّاً لا شَوْبَ يعتريه، عذباً فُراتاً، غَضّاً طَريّاً، فجزاهم الله عنّا وعن الإسلامِ وأهلهِ كلِّهم خيرَ الجزاء.
عبادَ الله:
لما كان الصحابةُ رضي الله عنهم صادقينَ في إيمانِهم، مُرْخِصِينَ في سبيلِ اللهِ أرواحَهم، مُنْفِقينَ في سبيلِ اللهِ أموالَهم، مُوْفِينَ للهِ عهدَهم، أثنى اللهُ عليهم ثناءً لم يُثنِ بهِ على أحد من الناسِ قبلَهم غيرَ الأنبياءِ والرسل، ولم يُثن بهِ على أَحدٍ يجيءُ بعدَهم أَبَدَ الأَبَد، وأَخبرَ أنه قد تاب عليهِم، ورضيَ عنهم ووعدَهم الجنة َكلَّهم أوّلَهم وآخرَهم سابِقَهم ولاحِقَهم، قال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى : {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
قال ابنُ حَزْمٍ رحمهُ الله استنباطاً من هذه الآيات الكريمات: “ثمَّ نَقطعُ _ أي نجزم_ على أَنّ كلَّ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بنيّةٍ صَادِقَةٍ وَلَو سَاعَةً فَإِنَّهُ من أهلِ الْجنَّةِ لَا يدْخلُ النَّار” اهـ فرضيَ اللهُ عن أصحابِ محمدٍ ﷺ وأرضاهم، ورزقَنا حُسْنَ الاقتداءِ بهم، والاهتداءَ بهداهُم، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأُصلّي وأُسَلِّمُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلهِ الطيبين، وصحبهِ الغُرِّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنه يجب على كل مسلمٍ محبةُ جميعِ أصحابِ النبي ﷺ والترضي عنهم، فمحبَّتُهم دِينٌ وإيمان، ولا يجوز لأَحدٍ بغضُهم أو سبُّهم أو الطَّعْنُ فيهم أوفي أحدٍ منهم، فإنَّ بُغضَهم كفرٌ ونفاق. واعلموا أَنّ الله تعالى لم يُثنِ على مَن يأتي بعدَ المهاجرينَ والأنصارِ إلا بثلاثةِ شروط: أَنْ يُحسِنَ في اتّباعِهِم، وأن يكونَ سليمَ القلبِ لهم، وأن يكون عفيفَ اللسانِ تُجاههم، يدعو لهم، ويترضى عنهم، ولا يذكرُهم إلا بالجميل، قال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، فأخبرَ أنه رضيَ عن السابقينَ الأولينَ مطلقاً، وشرط لرضاه عمّن بعدهم أن يُحسنوا في اتّباعِهم.
وقال تعالى بعد أن أثنى على المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فأثنى على المهاجرين والأنصار مطلقاً وأثنى على مَن بعدَهم إذا سَلِمتْ قلوبُهم من الغِلِّ عليهِم، وألسنتُهمْ من الإساءةِ إليهم.
فمَن طعن في الصحابةِ أو في واحدٍ منهم كان طعنُه فيهم دليلاً على نفاقه، ومعارضتهِ لربه جلَّ وعلا لأنه يُكفّرُ مَن شَهِدَ اللهُ لهُ بالإيمان، ويُفَسِّقُ من شهد الله له بالتقوى والصلاح، ويَذُمُّ مَن أثنى الله عليه وزكّاه، فقبّحَ اللهُ الروافضَ وأهلَ البدعِ الذين يكفّرونهم ويَسبّونهم ويطعنونَ فيهم، ويخوضون فيما جرى بين الصحابة من الاختلاف والفتنة، وقد أُمِروا بالكفِّ عنها، والسكوتِ عن الخوضِ فيها، والاعتذارِ لهم بأحسنِ المعاذير.
إخوة الإيمان:
تدارسوا سِيَرَ الصحابة، واتّخِذُوهم قُدوةً في العقيدةِ والأخلاقِ والعبادة، أَحبُّوهم جميعاً دونَ غُلّوٍ في أَحدٍ منهم، واحفظوا مقامَهم، وتذكّروا فيهم وصيةَ نبيكم ﷺ فيما رُويَ عنه من قولهِ : “اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، _ أي هدَفاً للكلام القبيح_ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ” رواه الترمذي.
اللهم إنا نسألك حُبَّ أَصحابِ نبيِّكَ ﷺ حُبَّاً صادقاً، اللهم احشرنا في زمرتهم يوم القيامة، واجمعنا بهم في جنات النعيم.
اللهم عليك بمن يُكفّرهم ويَطعنُ فيهم ويَسبُّهم فإنّهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.
اللهم وفّق إمامَنا ووليَّ عهدهِ لما فيه رضاك، واجعلْ عملهم موافقاً لهُداك، وارزقهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا سميع الدعاء، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.