العنوان : الإسراف في الماء إثم وخطر خطبة مكتوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمه واشكروها، ولاتنكروها وتكفروها، فبالشكر تدوم النعم، وتدفع النقم، وإن من أكبر النعم على الناس نعمة الماء، فإن الماء ذو شأن عظيم، إذ خلقه الله قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ومن الماء خُلِقَ كلُّ شيء قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} وقال ﷺ “كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ”
عباد الله: إنه لا يخلق الماء ولا ينزله من السماء عذباً طهوراً إلا الله، ولا يحفظه للخلائق في جوف الأرض إلا الله، ولا يجريه عليها بحاراً وأنهاراً وأودية إلا الله، ولا يبارِكُ فيه فيسقيَ به الناسَ والدواب، وينبتَ به الزروعَ والثمار، ويحييَ به الأرضَ بعد موتها، ويجعلَه بهجةً وبشرى للنفوس إلا الله. فهو المستحقُّ أن يعبد وحدَه قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تصرفوا شيئاً من العبادةِ كالدعاءِ والاستغاثةِ والنذورِ لغيرِ الله وأنتم تعلمون أنه لا يُنزّلُ من السماء ماءً غيرُه، تعالى الله عن الأنداد عُلوّاً كبيراً.
عبادَ الله:
إن الماء نعمةٌ عظيمة، وضرورةٌ من ضروراتِ الحياة، ومن شكرِ الله على نعمةِ الماء المحافظةُ عليه والاقتصادُ في استعمالَه، وإننا لو كنّا نعيشُ في أرضٍ وفيرةِ المياه لَحَرُمَ علينا التبذيرُ والإسرافُ في استعماله، فكيف ونحن في بيئةٍ صحراويةٍ ليستْ بأرضِ أمطارٍ ولا أنهار، فالاقتصادُ إذَنْ في حقّنا آكدُ من غيرنا.
إخوةَ الإسلام:
إن دينَنَا الحنيفَ حرّمَ الإسرافَ مطلقاً ولو في الكَمَاليّات، فكيف بالإسراف في الماءِ الذي هو أحدُ ضرورات الحياة، لا عيشَ ولا بقاءَ بدونه. قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} والشُّربُ أحدُّ أَهمِّ استعمالاتِ المياه، فإذا نهينا عن الإسرافِ في الشربِ فما ظنّكَ بالإسرافِ في غيرهِ من استعمالات الماء؟!.
وقال تعالى محذراً من التبذير مطلقاً {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا.إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} فهل ترضى أن تكون من إخوان الشياطين؟!.
وجاءت السُّنَّةُ كذلكَ مؤكدةً للاقتصادِ في استعمال الماء، ناهيةً عن الإسرافِ في أهمّ استعمالاته وهو الشُّربُ فضلاً عن غيره قال ﷺ “كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا، مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيْلَةٌ” أخرجه ابن ماجه. ونهت السُّنَّةُ النبويةُ أيضاً عن الإسرافِ في أَشرفِ استعمالاتِ الماء وهو الوُضوءُ فما ظنّكَ بالإسرافِ في غير ذلك، فقد مرَّ النبيُّ ﷺ بِسَعْدٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: “مَا هَذَا السَّرَفُ؟ ” فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: “نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ” رواه ابن ماجه وحسَّنَه الألباني، وكان معنى هذا الحديث مُتداوَلاً معروفاً عند السلف قال هلال بن يساف _وهو أحد التابعين_: “كان يُقالُ: في كلِّ شيءٍ إسرافٌ، حتى الطُهُور؛ وإن كان على شاطىءِ النهر”.
وذَمَّ النبيُّ ﷺ من يعتدي في وُضوئه وفي غُسله فقال ﷺ “إنَّه سيكونُ في هذه الأمَّةِ قومٌ يَعتَدونَ في الطُّهور والدُّعاء” رواه أبو داود. وجاءه أَعْرَابِيٌّ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ» رواه أبو داود والنسائي. فإذا كان غَسْلُ الوجهِ أو اليدينِ أو القدمينِ أربع مَراتٍ عداوناً وظلماً وتبذيراً فكيف بالتبذير بما هو فوق ذلك بكثير.
وكان ﷺ _وهو المباركُ في ذاتِه حتى كان الماءُ يتفجرُ من بين أصابعه إذا أراد الله_ ومع ذلك فكان القدوةَ والأسوةَ لأمته في الاقتصادِ في استعمالِ الماء، فكان يتوضأ بالمدِّ الواحدِ _وهو مقدارٌ يسيرٌ جداً يزيد على قارورة ماء الصحة الصغيرة بشيء قليل_ ، وكان ﷺ يغتسل بأربعة أمداد أو خمسة مع أَنّهُ كان كثَّ الشَّعرِ رَبْعةً مِن الرجال، كاملَ الخَلْقِ، معتدلَ القامة، بعيدَ ما بين المنكبين صلوات الله وسلامه عليه، يفعل ذلك تعبداً لربه، وتشريعاً لأمته، ليقتدوا به ويهتدوا بهديه ﷺ. ولهذا كان الإمام أحمد يقول “مِنْ فِقهِ الرجلِ قِلّةُ وُلُوْعِهِ بالماء” أي أنّ عدمَ المبالغةِ في استعمالِ الماءِ دليلٌ على عِلمِ المسلم وفقهه، كما أن إسرافَه في وَضوءه وغُسلِه واستعمالاته علامةٌ على جهله.
إخوةَ الإسلام:
لقد نهى النبيُّ ﷺ عن بعضِ التَّصرُّفاتِ التي تؤدّي إلى هدرِ المياهِ وإفسادِها، فقد نهى عن التنفسِ في الإناء، ونهى عن الشُّربِ من فَمِ السِّقاء، ومن أضرارِ هذه التصرفات أنّ الناسّ قد يَتقذّرون الماءَ فلا يشربونَه ولا يستعملونه مما يؤدي إلى إهداره.
كذلك نهى ﷺ عن البولِ في الماءِ الراكدِ، ونهى الجُنُبَ عن الاغتسالِ فيه؛ لأنّ هذه الأعمال أيضاً تُقذّرُ الماءَ وتُفسدُه فلا يُنتفعُ به.
فَلْنَتَخَلّقْ بِهَدْيِ الإسلامِ في كل شؤوننا ومنها هديُهُ في التعاملِ مع الماء، أقولُ هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وتذكّروا وأنتم تصلكم المياهُ النقيّةُ إلى بيوتكم بكُلفةٍ ماديةٍ يسيرةٍ أنّ هذا من فضل الله عليكم أولاً وأخيراً، فكم من الناسِ لا يجدونَ الماءَ النقيَّ، بل يشربونَهُ فيشربون معه الأمراضَ والديدانَ والأوبئة، وكم من الناسِ لا يجدونَ الماء النقيَّ إلا بشقِّ الأنفسِ وأَبْهضِ الأثمان، فاللهم لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
ثم تذكروا السببَ وراءَ هذه النعمة التي أنتم فيها وهي دولتُكم أيدّها الله وأعزّها فقد أقامتْ محطاتِ تحليةِ المياه ومدّت الشبكات، وبذلت الغالي والنفيس في سبيل راحة مواطنيها والمقيمين فيها، ومن لا يشكرُ الناسَ لا يشكرُ الله، وإنّ من حقها علينا الدعاءَ لها، ومِن حقها علينا أن نلتزم بالعقودِ التي بيننا وبينها في استعمالِ شبكةِ المياه، وذلك باستعمالهِ فيما يأذنُ به النظام، وعدمِ استعمالهِ فيما لا يأذنُ به النظام، كذلك باجتناب التحايلِ على عدّاداتِ المياهِ إغلاقاً أو فتحاً أو غيرِ ذلك مما يمكّن المستفيدَ من استعمالِ الماءِ دونَ وجه حق {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في ولاة أمرنا، وأن يحفظ علينا دينَنا وأمنَنا، وأن يرزقنا الاعتدالَ في كلّ شؤننا، وأن يُوزِعَنا شُكْرَ نِعَمِه، وأنْ يعيذَنا من كفرانها إنه سميع الدعاء، اللهم وفق إمامنا وولي عهده، واجعل عملهم على الهدى والسداد، واقمع بهم أهل الزيغ والفساد، وأصلح بهم البلادَ والعباد، اللهم أَمّنْ حدودَنا، وانصر جنودَنا يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزاكم الله خير
جزاكم الله خيرا شيخنا الغالي الحبيب
جزاكم الله خيراً فضيلة الشيخ علي وبارك في جهودكم