العنوان : حرمة الفساد المالي وأضراره والحث على التعاون على القضاء عليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه فيما تأتون وما تذرون، وما تسرون وما تعلنون، فإن الأعمال مرصودة والأعمار محدودة، وإن بعد الموت بعثاً وحياه، وبعد البعث حساباً ومجازاه. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
أيها المسلمون:
إن فتنةَ المال فتنةٌ عظيمة حذّرنا النبي ﷺ من السقوط فيها في أحاديثَ كثيرة، منها قولُه ﷺ “إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ” رواه الترمذي، وفتنةُ المال أن يكتسبه المسلم من الوجوه المحرمة أو ينفقَه في الوجوه المحرمة أو يمنعَ حق الله أو حقَّ خلقِه فيه.
عباد الله:
إن من صور الاكتساب المحرم أن يستغلَّ الموظفُ وظيفتَه الحكوميةَ أو وظيفتَه الخاصةَ ليكتسبَ من خلالها ما ليس له بحق، لا سيما عن طريقِ الرشوة التي نهى الله عنها في قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وتوعد النبي ﷺ باذِلَها وآكِلَها فقال «لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» رواه ابن ماجه.
وحكم الرشوة لا يختلفُ بتغييرِ اسمِها فالرشوةُ رشوةٌ سواءٌ سميت هديةً أو حلاوةً أو بخشيشاً أو إكراميةً، أو سُميت بغير ذلك من الأسماء، قال ﷺ ” مَا بَالُ العَامِلِ _يعني الموظف_ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ” متفق عليه.
إخوة الإسلام:
إن بعض الناس قد يتعففُ عن أكل أموالِ الأفرادِ بغير وجهِ حق، لكنه لا يبالي بما أَخذ من أموالِ الدولة والأموال العامة، معتقداً حِلَّ ما يقع في يده منها، ولا شك أنه اعتقادٌ فاسد، ومسلكٌ قبيح خبيث، فقد توعد الله أهلَ الغلول، وأَكَلَةَ مالِ بيت المسلمين بالوعيد الشديد قال تعالى {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، وفي الصحيحين أن رجلاً أصابه سهمٌ يوم خيبر مع رسول الله ﷺ فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : «بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» والشملة كساء صغير يُتّزرُ به. فإذا كانت هذه عقوبة من غلّ كساء صغيراً فما ظنك بعقوبة مَن غَلَّ أو سرق المئات أو الألوف أو مئات الألوف.
وقال ﷺ «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، _ يعني إبرة_ فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري. أي يأكلون أموال المسلمين بغير وجه حق. ويروى عنه ﷺ أنه قال “وَلَا تَغُلُّوا؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ”.
فلنتقِ اللهَ عباد الله ولنحافظْ على أموال الدولة، ولا نمدَّ أيدينا لما لا يحِلُّ لنا منها، لا إلى قليلٍ ولا كثير، وقد علمتم أن أَخْذَ القليلِ بغيرِ حقٍّ، كفيلٌ بإحراق العبد في قبره، ويومِ بعثه، وبفضيحته على رؤوس الأشهاد في يوم المعاد نسأل الله السلامة.
اللهم إنا نعوذ بك من أكل المال الحرام فأعذنا يا سميع الدعاء، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد عبادَ الله:
فإن الفساد الماليَّ بأخذِ الرشوة والتربحِ بالوظيفة بغير وجه حق إذا انتشر وفشا في المجتمع آذن بفساده وخرابه ودماره، فإذا دخل الفسادُ الماليُّ إلى مِرفق القضاءِ مات العدل، وإذا دخل مرفقَ التعليمِ فشا الجهل، وإذا دخل الطبَّ هلكت الأبدانُ وزَهَقَت الأرواح، وإذا دخل مجال العمارة والبناء تلفت المشاريع وتهدّم العمران، وإذا دخل مجالَ التوظيفِ وُظِّف غيرُ المستحق وحُرِم المستحق وإذا دخل الجيشَ ضعُفت قوتُه، وذهبت هيبتُه. فالرشوة والفساد المالي أشبه ما يكون بالأورام الخبيثة التي تتلف الأعضاء التي تتسلل إليها.
عباد الله:
إنه لحرمة الفساد المالي ولعظم خطره فقد اجتهد ولاة أمورنا وفقهم الله في محاربته والقضاء عليه، وواجبنا أن نكون أعوانَ صدقٍ لولاة الأمر في إعانتهم على هذه المهمة الجسيمة، وذلك بأن نتحلى بالأمانة في أنفسنا، وبالإبلاغ عن المفسدين الفاسدين مالياً، دون محاباة ولا مجاملة، حتى تتمكن الجهاتُ المعنية من إيقافهم وردعهم، وتخليصِ الوطن من شرورهم. قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
رزقني الله وإياكم النزاهة والعفاف والاستقامة، وأعاذني وإياكم من فساد الدين والأخلاق وتضييع الأمانة.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين إلى ما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.