العنوان : من خصال الجاهلية
الخطبة الأولى
أما بعد:
عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة. وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب. أخرجه مسلم.
اشتمل هذا الحديث على التحذير من بعض الخصال الجاهلية، وإضافتها إلى الجاهلية دليل على تحريمها والزجر عنها لأننا مأمورون بمخالفة هدي المشركين وما كانوا عليه في الجاهلية الأولى كما قال تعالى (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وكما قال سبحانه (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) وكما قال صلى الله عليه وسلم (خالف هدينا هدي المشركين) أخرجه البيهقي.
و لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من هدي الجاهلية وشعائرها والأمر بمخالفتهم كان الصحابة رضوان الله عليهم يكرهون ما كان عليه الجاهلية حتى يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالف ذلك قال عاصم قلت لأنس بن مالك رضي الله عنه أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة قال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} رواه البخاري وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } في مواسم الحج.
وخصال الجاهلية تتفاوت منها ما هو كفر ومنها ما هو معصية دون الكفر فكل خصلة تعطى حكمها الذي يخصها.
ومن كانت فيه خصلة من خصال الجاهلية لا يكون بذلك كافراً ولا فاسقاً حتى يثبت كفره أو فسقه بمقتضى الدليل الشرعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية) لمّا عير رجلاً بأمه ولم يكن بذلك كافراً ولا فاسقاً رضي الله عنه.
والمسلم يجب أن يعتز بدينه وأن يتميز بالاستمساك به وأن يكون أبعد شيء عن مشابهة المشركين واليهود والنصارى في لباسه وزينته وعاداته وعباداته وأقواله.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (لا يتركونهن) أي أن الناس كلهم لن يتركوا هذه الخصال بل سيبقى من يتصف بها منهم، وهذا خبر من خبر الغيب وعلم من أعلام النبوة إذ هو مما أطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم. فليحذر المسلم أن يكون من هؤلاء الذين لا يتركون خصال الجاهلية.
الخصلة الأولى: الفخر بالأحساب. أي أن يفتخر الإنسان بأمجاد آبائه وأجداده وقبيلته . وكانت العرب في الجاهلية إذا اجتمعت في منى اشتغلوا بذكر مفاخر الآباء فنهى الله عن ذلك وأمر بالاشتغال بذكره سبحانه قال تعالى (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية _ الفخر والنخوة_ وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعن عياض بن حمار – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إن الله تعالى أوحى إلي ، أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد » رواه مسلم .
إن الأحساب لا تغني عن صاحبها شيئاً ولا تنفعه عند الله إنما ينفع العبد إيمانه وعمله الصالح قال صلى الله عليه وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وقال (يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً) وقال تعالى (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).
إن العناية بحفظ النسب مطلوبة شرعاً لكن ليس من أجل التفاخر وإنما لمقاصد عظيمة وفي مقدمتها أن يصل المسلم رحمه. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر) رواه الترمذي وصححه الألباني رحمه الله.
الخصلة الثانية: الطعن في الأنساب.
وذلك بأن يقول فلان ليس له أصل. أو القبيلة الفلانية ليست بأصيلة. وانتقاص فلان لأنه ليس بقبيلي ونحو ذلك مما يجري على كثير من الألسن التي لم يتأدب أصحابها بأدب الإسلام وخلقه.
إن الإنسان لا يضره عند الله إلا سوء عمله أما أصله وفصله ونسبه فلا ينظر الله إلى ذلك يوم القيامة فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب فعلام الفخر؟.
إن الطعن في الأنساب كما أنه من أمور الجاهلية المذمومة فهو كذلك مما يشيع في المجتمع المسلم روح الكراهية والعداء والتباغض وقد يؤدي إلى كثير من الفتن والعنف والتي قد تذهب بسببها أنفس بغير حق.
ومن المظاهر السيئة التي أشرب حبها بعض الناس حضور المناسبات التي يجتمع فيها الشعراء فيفتخر الشاعر بقبيلته ويحط على القبيلة الأخرى والناس يضحكون ويصفقون ويرقصون فهذه مناسبات جاهلية لا يحل إقامتها ولا حضورها ولا اقتناء أشرطتها قال تعالى عن عباد الرحمن (والذين لا يشهدون الزور) أي لا يحضرون الباطل ولا يجلسون في مجالسه ولا يشاركون أهله بل يفارقونهم. وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات وقال تعالى (ويل لكل همزة لمزة) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونعني وإياكم بهدي سيد المرسلين..
الخطبة الثانية
أما بعد:
الخصلة الثالثة:الاستسقاء بالنجوم. ومعناه نسبة نزول الأمطار إلى النجوم وسير الفلك ودخول الأنواء وخروجها. ونسبة نزول الأمطار إلى النجوم لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يعتقد أن النجم هو الذي ينزل المطر فهذا شرك أكبر لأن المطر لا ينزله إلا الله تعالى قال عز وجل (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته).
الحالة الثانية: أن يعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر ولكنه يجعل النجوم سبباً لها فهذا شرك لكنه شرك أصغر لا يخرج من الملة وعلى المسلم أن يتوب إلى الله منه.
الحالة الثالثة: أن يقول نزل المطر في الوقت الفلاني في النجم الفلاني فهذا لا حرج فيه لأنه لم ينسب نزول المطر إلى النجم وإنما جعله وقتاً له.
إن الله خلق النجوم لثلاث حكم ذكرها الله تعالى في كتابه وهو أنه خلقها زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها في معرفة الجهات. قال تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناه رجوماً للشيطاين) وقال تعالى (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) فمن زعم فيها شيئاً غير ذلك فقد قال بغير علم.
أيها الإخوة إن كثيراً من الناس يغفل عن كون الله تعالى هو الذي بيده تصريف أمر الغيث فينخلع قلبه حين يسمع أن الناس مستقبلاً سيموتون ظماً وعطشاً من أجل تحكم بعض الدول في مصادر المياه كالأنهار مثلاً. أو بسبب كثرة أعداد السكان ونحو ذلك من الأباطيل ألا وإن الأمر بيد الله وحده وقد قال تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) وقال تعالى (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ). فالله بحكمته يصرفه كيف يشاء وهو الذي يتولى رزق عباده ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها قال سبحانه عن الغيث (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً).
الخصلة الرابعة: النياحة على الميت والنياحة هي رفع الصوت عند موت الميت. جزعاً وتسخطاً. ومن النياحة ذكر محاسن الميت وتعديد مآثره عند موته.
والنياحة من كبائر الذنوب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ” رواه البخاري.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) متفق عليه. الصالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والحالقة التي تحلق شعرها وتنتفه عند المصيبة والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة.
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت ” . رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة. رواه أبو داود
فالنياحة محرمة والتوبة منها واجبة. أما البكاء على الميت بدون نياحة فلا حرج فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم لما مات عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم عليه السلام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأنت يا رسول الله فقال يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.
فالله تعالى لا يؤاخذ بدمع العين ولا بحزن القلب وإنما يؤاخذ برفع الصوت بالبكاء ومن غلبته نفسه فليجاهدها ومن يتصبر يصبره الله تعالى.
ثم اعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم… الخ