العنوان : من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن من أجل نعم الله جل ثناؤه اجتماع المسلمين في قطر من أقطارهم تحت راية إمام واحد يستظلون بظله، ويأوون إلى ركنه، تجتمع به كلمتهم، ويشتد به أزرهم، فتسكن النفوس، وتطمئن القلوب، وتأمن السبل، وينتشر الناس في الأرض يعبدون ربهم، ويكتسبون معايشهم، قد أمن كل منهم على نفسه وأهله وماله وعرضه ودينه.
لشأن الجماعة فقد أمر الله تعالى بلزومها، والانتظام في سلكها، وحذر عن الشذوذ عنها، والخروج عليها، بل وزجر عن كل سبب قد يفضي إلى خلخلة بنيانها، وتصدع أركانها مهما كان.
قال البغوي رحمه الله: بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة”.
قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) أي استمسكوا بحبل الله وهو هنا الاجتماع على الحق، والاجتماع على الإمام الذي اجتمع عليه الناس في جميع بلاد المسلمين أو في قطر من أقطارهم، قال ابن جرير رحمه الله: إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدم إليكم فيها. وحذركموها ونهاكم عنها ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم.
يؤكد هذا المعنى أيضاً نبينا صلى الله عليه و سلم حيث يقول (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) أخرجه مسلم.
إن المؤمن حقاً هو الذي يحرص على شأن الجماعة، ويسعى في صلاحها حسب استطاعته، بقلبه ولسانه وجوارحه وماله، قال صلى الله عليه و سلم “ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولي الأمر، وفي لفظ طاعة أولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائه”.
وهذه الخصال الثلاث خصال عظيمة حتى قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (لم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها).
بل ديننا دين الإسلام يقوم على النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. كما جاء في حديث الدين النصحية.
إن لزوم الجماعة من أسباب الفوز بالجنة بل وبأعلى درجاتها قال صلى الله عليه و سلم (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) وبحبوحة الجنة وسطها وخيارها كما قال ابن الجوزي في غريب الحديث.
ويظهر حرص الشارع على الجماعة أنه أمر بالسمع والطاعة وبذل حقوق أولي الأمر كاملة قدر الاستطاعة حتى ولو كان ولي الأمر ظالماً جائراً يستأثر على الرعية بحظوظ الدنيا وزهرتها، لأن ما يجريه الله على يديه من الخير أعظم من الشر الذي يقع منه، ولأن الشر الذي يشتكى منه أهون بكثير من الشرور التي ترتقب من جراء الخروج عليه ومنازعته بالقوة، وربنا حكيم عليم لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشر.
وفي تقرير هذا الأصل العظيم يقول صلى الله عليه و سلم “من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية” متفق عليه. وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال (اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن يكون معصية) رواه ابن حبان في صحيحه. وبهذا أوصى الصحابة من بعده أيضاً فقد جاء سماك بن الوليد الحنفي إلى ابن عباس بالمدينة فقال ما تقول في سلطان علينا يظلموننا ويشتموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا نمنعهم؟ قال ابن عباس: لا. اعطهم يا حنفي .. ثم قال : يا حنفي: الجماعة الجماعة. إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت الله عز وجل يقول (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير.
وأنكر حذيفة رضي الله عنه على قوم خرجوا على السلطان وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول “من فارق الجماعة واستذل الإمارة لقي الله عز وجل ولا وجه له عنده” رواه أحمد والحاكم. والشواهد المرفوعة والموقوفة كثيرة.
لقد جربت الأمة الخروج على ولاتها فما لقيت إلا العواقب الوخيمة، ولم تجن إلا فساداً أعظم بكثير من الفساد الذي كانت تشكوه، وأي فساد أعظم من سفك الدماء وهتك الأعراض وتقطع السبل وخراب الديار، ونهب الأموال، وتعطل الجمع والجماعات، وتفرق الكلمة، واختلاف القلوب، وتسلط الأعداء.
ولا عجب فإن مخالفة الشرع لا تكون إلا شؤماً ووبالاً وإن حسّنت العقول المخالفة بادي الرأي. وقد نبه الناصحون من أئمة السنة وأعلام الأمة إلى عواقب الخروج الوخيمة قال شيخ الإسلام “ولعله لا يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته”.
وقال العلامة ابن القيم: ” فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر” إلى أن قال ” ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه” اهـ.
فالحذر الحذر من أسباب الفتن والتفرق ومنها:
1- سوء الظن في ولاة الأمر وأهل العلم واستطالة اللسان في أعراضهم وتنقصهم ولمزهم. وهذا من أعظم أسباب فساد ذات البين بين الرعية والراعي، ولهذا حذر السلف من الطعن في الأمراء لأنه يفضي إلى فساد أمر الدنيا، ومن الطعن في العلماء لأنه يفضي إلى فساد أمر الدين سمع أبو بكرة رضي الله عنه رجلاً يسب الأمير فقال له اسكت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أهان سلطان الله في الأرض هنه الله” رواه الترمذي وقال حسن غريب. و قال أنس بن مالك رضي الله عنه: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تعصوهم واصبروا واتقوا الله عز وجل فإن الأمر قريب. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة. وقال ابن عباس لسعيد بن جبير (لا تغتب إمامك) رواه البيهقي في الشعب.
2- الانضمام إلى الجماعات الحزبية المذمومة التي تجتمع على مفارقة الجماعة، والشذوذ عنها فإنها شر ووبال ولو نسبت نفسها إلى الإسلام والدعوة إلى الله فإن الأسماء والعناوين والشعارات لا تجدي على أهلها شيئاً إذا كانوا على ضلالة فقد رفع الخوارج شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا حكم إلا لله وكانوا من أكثر الناس صلاة وصياماً وتلاوة فهل أغنت عنهم شعاراتهم شيئاً؟ هيهات فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم شر الخلق والخليقة وأخبر أنهم كلاب النار، فليست العبرة بكثرة العمل ولا بحسن القول وإنما العبرة بموافقة الحق ولزوم السنة.
ومنها التجمعات السرية، والغلو لا سيما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاقتداء بالجهال الذين لا يميزون بين الحق والباطل، والاغترار بالمغرضين الذين يلبسون للناس جلود الضأن ولكن تنطوي صدورهم على قلوب الذئاب خبثاً وشراً. وفشو رأي الخوارج والمعتزلة في التكفير والتغيير بالقوة والخروج على الأمة بالسلاح.
وحين تظهر بذور الفتن والشقاق والاختلاف فيجب الجد في القضاء على أسبابها قبل أن تستفحل وذلك بالأخذ على أيدي مثيري الفتن، وتفنيد الشبهات والاجتهاد في نشر السنة وعقيدة السلف الصالح لا سيما في باب ولاة الأمور فإن عقيدة السلف في هذا الباب دخله غبش ولبس عند كثير من المسلمين من العوام ومن طلبة العلم والشباب المتدين إلا من رحم الله، ولعل من أبرز أسباب هذا الغبش عدم العناية بهذا الأصل من قبل كثير من الدعاة لا سيما في العقدين السابقين، حتى صار من يذكره ويقرره مستسمجاً عند كثير من الناس متهماً بالتهم الشنيعة المنفرة عنه وعن علمه.
وفي ختام هذه الكلمة ألفت نظر القارئ الكريم إلى ضرورة مطالعة كتاب (معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة) لأخي الشيخ عبد السلام بن برجس تغمده الله بواسع رحمته وكذا الكتب التي تفرعت عنه مما أصدره الشيخ رحمه الله فهو كتاب قيم جمع علماً جماً في هذا الباب جزى الله مؤلفه خير الجزاء وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
علي بن يحيى الحدادي
مام وخطيب جامع عائشة بالرياض