العنوان : من أحكام الطلاق وحِكمه
أما بعد:
فإن الله تعالى شرع النكاح لمصالح عظيمة منها غض البصر وإعفاف الفرج وحفظ النوع الإنساني وكثرة النسل في أمة الإسلام ليباهي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة بكثرة أعداد أمته. وليكون بيت الزوجية مكان أنس وسكن، ومودة ورحمة كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21]
وليحصل بين الزوجين التعاون على البر والتقوى وقضاء كل منهما حاجات صاحبه فالرجل يكتسب وينفق والزوجة ترعى شؤون بيتها وزوجها وأولادها ويتعاونان على التربية الحسنة لتكون الذرية ذرية طيبة مباركة. ولكن إذا ساءت العشرة بين الزوجين وحصلت البغضاء والكراهية وكثر الشقاق والضرار وتعذر الإصلاح فإن الله شرع الطلاق رفعا للضرر عن الرجل والمرأة كليهما.
وقد جاءت أحكام الطلاق مفصلة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تلك الأحكام :
أن يكون الطلاق في العدة كما قال تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) والطلاق للعدة هو الطلاق في أثناء الحمل فإذا تبين حملها جاز طلاقها.
وكذلك إذا طهرت من حيضها فللرجل أن يطلقها لكن قبل أن يجامعها.
فهذان وقتان يباح فيهما الطلاق. وهذا من حِكمة الشارع فإنهما وقتان يقل فيهما الطلاق غالباً، لأن من مقاصد الشارع تقليلَ الطلاق وتضييقَ مجاريه حفاظاً على بيت الزوجية من التصدع والانهدام.
وأما التي لا تحيض لصغرها أو لكبرها وكذا المعقود عليها لكن لم يدخل بها بعد فإنه متى طلقها وقع الطلاق.
والسبب والله أعلم أنها حالات نادرة فمن النادر تطليق المرأة قبل الدخول بها، ومن القليل أيضاً تطليق الرجل امرأته بعد سن اليأس فإنه يكون بينهما من العشرة والتفاهم والصبر والاحتمال والتواد ما يتشبث معه كل واحد منهما بصاحبه.
ومن أحكام الطلاق أنه متى أراد أن يطلق فليطلق مرة واحدة في العدة المتقدم ذكرها قال طاوس: “إذا أردت الطلاق فطلقها حين تطهر، قبل أن تمسها تطليقة واحدة، لا ينبغي لك أن تزيد عليها، حتى تخلو ثلاثة قروء، فإن واحدة تبينها” اهـ
أما أن يطلق مرتين أو ثلاث في وقت واحد فهذا مما يخالف حكم الله في الطلاق لأن مقصود الشارع أن يكون للرجل فرصة لإرجاع زوجته ما دامت في عدة الطلاق الرجعي.
لكنه لو طلق مرتين أو طلق ثلاثاً أفسد تلك الحكمة المشروعة من تفريق الطلاق وجعْلِه مرتين ولكل مرة عدة تمكن فيها الرجعة حتى تكون الثالثة ثم لا رجعة إلا بعد أن ينكحها زوج آخر.
ومن أحكام الطلاق أن المطلقة الرجعية زوجة لها ما للزوجات من السكن والنفقة وعليها ما على الزوجات فتبقى في بيتها وتتزين لزوجها ما دامت في العدة فإن الزوج إذا رآها كذلك قد يراجعها بقوله أو بفعله وهو الجماع.
ولا يجوز لها أن تخرج من بيتها إذا طلقت ولا يجوز لزوجها أن يخرجها من البيت إلا إذا انتهت عدتها قال تعالى (فطلقوهن لعدتهن وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] فإن أتت بفاحشة مبينة كالزنا أو أذية زوجها وأولادها وأهل زوجها بلسانها أو يدها ونحو ذلك فلا باس بإخراجها أو خروجها.
ومن أحكام الطلاق أنه يستحب لمن طلق امرأته وتم الفراق بينهما أن يمتعها متعة حسنة على قدر حالته المادية كما قال تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) ولقوله تعالى ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } [الأحزاب: 28]
فانظر لهذه الشريعة الحسنة الكاملة التي تتقاصر دونها كل النظم البشرية مهما بلغت حضارة ومدنية انظر كيف شرعت أسباب سلامة نظام الأسرة أولاً بالحث على اختيار الزوجة الصالحة واختيار الزوج المرضي في دينه وخلقه ثم حثت كل زوج أن يقوم بحقوقه وأن يعاشر صاحبه بالمعروف ثم شرعت الحلول المناسبة عند حدوث الاختلاف من الموعظة فالهجر فالضرب للتأديب فالتحكيم بينهما.
وبالحث على التفكر في محاسن الزوجة وتفكر المرأة في محاسن الزوج مهما كان في كل منهما من الصفات التي قد توجب الكره كما قال تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ _ هل قال فطلقوهن ؟ لا ولكن قال (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19] يعني أمسكوهن واصبروا عليهن فلعل فيها خيراً كثيراً ينتظرك في الدنيا أو في الآخرة بسببها من مال مبارك أو ولد صالح أو درجة في الجنة أو غير ذلك مما لا يعلمه الا الله.. وفي الحديث الصحيح (لا يفرك مؤمن مؤمنة _أي لا يبغض زوج زوجته_ إن سخط منها خُلُقاً رضي منها آخر).
ثم إذا كان ولا بد من الطلاق فليطلق كما شرع الله .. وإذا تمت الفرقة شرع له أن يقدم لها متعة حسنة من مال أو كسوة أو غيرها جبراً لكسرها وشكراً رمزياً لما كان بينهما..
نسأل الله أن يصلح القلوب وأن يجمعها على الخير وأن يعيذ بيوت المسلمين من نزغات الشيطان وتحريشه وسعيه بالفساد إنه سميع مجيب الدعوات.
اقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن الأخطاء التي تقع من كثير من الناس في الطلاق كثيرة جداً ومنها على سبيل المثال لجوء كثير من الأزواج إلى التهديد بالطلاق بشكل متكرر عند كل مشكلة ولو صغرت ، وهذا من سوء العشرة لما يحدثه في قلب الزوجة من الخوف والاضطراب فالطلاق ليس عصى تهديد وإنما هو آخر العلاج للمشاكل الأسرية التي تعصت على الحلول السلمية الممكنة.
ومن الأخطاء المبادرة الى الطلاق عند وقوع الاختلاف قبل بذل الحلول الشرعية كالوعظ والهجر ونحوهما من الحلول والمحاولات.
ومن الأخطاء الطلاق المخالف للشرع إما في وقته وإما في عدده.
ومن الأخطاء المنتشرة المبادرة إلى إخراج المرأة المطلقة الطلقة الأولى أو الثانية إلى بيت أهلها أو خروجها هي إليهم وهذا كما سمعتم مخالف لحكم الله فالله نهى عن خروجها إو إخراجها..إلا في حالات معينة محدودة.
ومن الأخطاء أن يسبق الطلاق أو يتبعه من صور الأذى والضرب والظلم وفحش القول والخصومات مالا يليق بمسلم ولا مسلمة فالله تعالى أمرنا فقال {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقال تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال تعالى ({فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. وأختم هذه الكلمة بالحث على ضرورة مراجعة الجهات المختصة عند حدوث الطلاق فعلى الزوج أن يراجع الإفتاء او يراجع المحكمة حين يتلفظ بكلمة الطلاق سواء الطلاق الرجعي أو البائن وأن لا يكتفي بسؤال أحد غير من خول من قبل ولاة الأمر بقضية الطلاق حتى يكون على بينة وبصيرة من أمره.
معاشر المؤمنين : صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين..