العنوان : من آفات اللسان
الخطبــة الأولــى
أما بعد :
فإن البيان من نعم الله التي امتن بها على الإنسان فقال سبحانه (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) أي علمه النطق كما قال الحسن البصري، فخلق له لساناً وشفتين وركب له حنجرة بها يستطيع التعبير عما في نفسه بلا كلفة ولا مؤونة.
ومع عظم المنة بنعمة النطق والبيان إلا أنها قد تكون وبالاً على صاحبها حين لا يضبط لسانه بضوابط الشرع كما يجب حتى يكبه في جهنم والعياذ بالله.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ ( أمسك عليك هذا – يعني لسانك – تعجب معاذ وقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم )
فمن آفات اللسان أن يقع به في الشرك الأكبر الموجب لصاحبه الخلود في النار كمن يدعو غير الله ويستغيث بغير الله فإن هذه عبادات من صرفها لغير الله فقد جعل لله نداً .
ومن آفات اللسان أن يخرج المسلم بسببه من الإسلام بعد أن كان فيه كمن يستهزئ بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالدين كما قال تعالى ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهئزون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ).
ومن آفات اللسان أن يقع به في الشرك الأصغر كمن يحلف بغير الله تعالى كالحلف بالنبي أو الولي أو الأب والأم أو الحياة والشرف أو الأمانة وكل محلوف به سوى الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
ومنها أن يقع به في كفر النعمة وذلك بنسبتها إلى غير الله تعالى باعتبار ذلك الغير سبباً لا خالقاً كنسبة المطر إلى النجوم كما في الحديث القدسي (من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)
ومنها أن يقع به في كبيرة من الكبائر التي توجب الحد الشرعي وذلك بقذف محصن أو محصنة بالزنا فإنه إن لم يقم الشهادة الشرعية المعتبرة على ذلك وطالب المقذوف بحقه يجلد ثمانين جلدة كما قال تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)
ومنها أن يستعمله في السخرية بالمسلمين وازدرائهم سواء بالنطق أو بالإشارة قال تعالى (ويل لكل همزة لمزة) ثم توعده بالعذاب الأليم فقال (كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة) قال ثابت البناني : تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء ، ثم يقول : لقد بلغ منهم العذاب ، ثم يبكي . وقال محمد بن كعب : تأكل كل شيء من جسده ، حتى إذا بلغت فؤاده حذو حلقه ترجع على جسده.
ومن السخرية السخرية بأنساب الناس والطعن فيها والسخرية ببلدانهم أو ألوانهم أو فقرهم أو بغير ذلك من الأمور.
ومن آفات اللسان ومصائبه استعماله طريقاً للفاحشة باستمالة النساء أو الذكور من المردان مباشرة أو بالهواتف أو ببرامج المحادثات في الشبكة أو غيرها فإن هذه الفواحش العظيمة إنما تبدأ بالكلام حتى تصل إلى ما تصل إليه والعياذ بالله .
ومن آفات اللسان استعماله في شهادة الزور وهي كل شهادة باطلة وما أكثر اجتراء الناس عليها في هذا الزمان .
قال صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس اهتماماً بشأنها فقال ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها قال الراوي حتى قلنا ليته سكت أي شفقة عليه ورحمة به صلى الله عليه وسلم .
ومن آفات اللسان التلاعب بالطلاق والاستهانة بشأنه كمن يجعل الطلاق يميناً له في كل صغير وكبير وخطير وحقير وكمن يطلق لاعباً مازحاً وكمن يطلق في غير العدة الشرعية وكمن يطلق إضراراً قال تعالى (ولا تتخذوا آيات الله هزواً) يعني به الطلاق إذ الآية بتمامها :
(وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم (231)
ومن آفات اللسان السب والشتم والفحش والبذاء . إن هذه الخصال ليست من أخلاق أهل الإيمان حقاً وصدقاً ، وإن من كان كذلك فلا يكون من الشهداء ولا الشفعاء يوم القيامة كما ثبت الحديث به عن نبينا صلى الله عليه وسلم .
ومن آفات اللسان الطعن في العلماء والأمراء كما تفعله الخوارج والمعتزلة ومن تأثر بهم إذ الطعن في الأمراء يؤدي إلى فساد الدنيا والطعن في العلماء يؤدي إلى فساد الدين وسبيل إصلاح أغلاطهم بالمناصحة لا بالطعن والتشهير .
ومن آفات اللسان الوقيعة في الأعراض بالغيبة قال تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ” .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال من هؤلاء يا جبريل قال الذين يأكلون لحوم الناس) رواه أحمد . وليس من الغيبة التحذير من البدع وأهلها نصحاً للمسلمين واتقاءً لشرهم .
ومن آفات اللسان المشي بالنميمة لإفساد ذات البين بين الزوجة وزوجها والابن وأبيه والصديق وصديقه إن النمام لا يدخل الجنة كما في الحديث لا يدخل الجنة قتات أي نمام كما أن النميمة من أسباب عذاب القبر كما في حديث ابن عباس في الصحيحين .
ومن أعظم آفات اللسان وأشدها خطراً القول على الله بغير علم قال تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) وقال تعالى مبيناً خطر القول عليه بغير علم ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )
عباد الله هذه بعض مزلات الألسن وبعض آفاتها المهلكة المردية فاحذروا ألسنتكم حتى لا تكون جسراً لكم إلى النار أعاذني الله وإياكم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبــة الثانيــة
أما بعد :
فإن اللسان عظيم الخطر قد يرفع الله بسببه العبد إلى أعلى درجات الجنة وقد يهوي إلى أبعد دراكات النار والعياذ بالله فالسعيد من خزن لسانه وراقب ألفاظه وتذكر أن ثمة من يحصي عليه كل ما يخرج منه من خير وشر (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)
لقد كان السلف أشد الناس علماً بخطر اللسان لذا قال ابن مسعود (ما شيء أحق بطول سجن من اللسان) وعن الأوزاعي قال : كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول : ” أما بعد فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا ينفعه ” اهـ.
أيها الإخوة : إن خلاصة سياسة المرء مع لسانه يجب أن تكون على ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فإذا لم يكن في كلامك منفعة في دين أو دنيا فالزم الصمت لانه حينئذ سلامة والسلامة لا يعدلها شيء .