العنوان : ختام شهر رمضان – صدقة الفطر _ التكبير
أما بعد:
فإننا اليوم نترقب محزونين انتهاء شهر رمضان كما كنا بالأمس القريب نترقب قدومه فرحين، وحق لكل مسلم أن يفرح بقدومه وأن يأسى ويحزن لفراقه، لأنه شهر كريم وموسم عظيم تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر. من صام هذا الشهر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه موسم تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات وتغفر فيه الذنوب، شهر الصيام والقيام وإطعام الطعام وقراءة القرآن والمبادرة إلى فعل الخير، شهر العتق من النار.
عباد الله:
إن كان الشهر قد انقضت أيامه مسرعة فهذه سنة الله في خلقه، فترقب لكل موجود زوالاً ولكل مقيم انتقالاً، إنها ذكرى لمن يتذكر، وعظة لمن يتعظ أن الأعمار سريعة الانقضاء والانتهاء فكل ما مضى من العمر وإن طال فإنه كحلم، وإذا انقضى الشيء فكأنه ما كان. فلا تغرنكم هذه الحياة بزخرفها وزهرتها فإنها حياة فانية عن قريب، ثم تصيرون إلى دار الخلود الذي لا موت بعده، فاجتهدوا أن تكونوا في الحياة الآخرة من أهل دار السرور والحبور دار القصور المنيفة، والدرجات الشريفة دار الجنان والأنهار ، دار التلذذ بالنظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام. دار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
واحذروا ثم احذروا من المصير إلى دار الأحزان و الحسرات دار الأغلال والسعير دار الضريع والزقوم دار الخزي والهوان، فبئست الدار وبئس القرار.
عباد الله:
إن طريق الجنة الإيمان والعمل الصالح وإن طريق النار الكفر بالله ومعصيته فاتقوا الله في أنفسكم وتزودوا من دنياكم لمعادكم، واسلكوا سبيل الجنة واحذروا سبل النار.
معاشر المؤمنين:
إن المتبقي من شهر رمضان وإن كان قليلاً إلا أنه عظيم الشأن فبادروا بالتوبة النصوح، بادروا إلى الاستغفار والذكر والدعاء والتضرع إلى الله، وقد جاء في الأحاديث أن الله يغفر للصوام في آخر ليلة من رمضان كما يوفى العامل أجره إذا فرغ من عمله ولكن مغفرة الله لا ينالها المصرون على الكبائر الذي لا ينتهون عنها ولا يتوبون منها كما في الحديث الصحيح ” رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر ” فيا أيها المصرون على الصغائر ويا أيها الواقعون في الكبائر بادروا بالتوبة والإقلاع لعل الله أن يشملكم برحمته وغفرانه ورضوانه فإنها فرصة قد لا تدركونها بعد عامكم هذا .
إخوة الإسلام :
يا من وفقتم لصيام الشهر وقيامه , ويا من وفقتم إلى تلاوة القرآن والمبادرة إلى كثير من الأعمال الصالحة لا تركنوا إلى أعمالكم ولا تغتروا بما قدمتم فما وفقتم إلى عمل صالح إلا بتوفيق الله لكم وإعانته إياكم فاحمدوا الله واشكروا له على إنعامه وسلوا ربكم القبول فإن المؤمن الصادق هو الذي يجمع بين العمل الصالح والخوف من الله ألا يقبل منه عمله كما قال تعالى { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } فقد روى أحمد عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل هذه الآية أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ؟ فقال لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصلون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم .
فابتهلوا إلى الله وتضرعوا إليه أن يتقبل منكم صالح أعمالكم .
عباد الله :
لقد دخل شهر رمضان على قوم وهم أسرى الغفلة والمعصية ثم خرج عنهم أو أوشك وهم على حالهم هذا والعياذ بالله فهؤلاء ما انتفعوا برمضان ولا استفادوا منه شيئاً بل كان ضررهم فيه كبيراً وجرمهم جسيماً , ومع ذلك فباب التوبة والإنابة والرجوع لا يزال مفتوحاً , فإن باب التوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها وحتى تبلغ الروح الحلقوم فليبادر كل مفرط مسيء إلى اغتنام لحظات العمر قبل انقضائها ومن تاب تاب الله عليه في رمضان أو غيره ولكن احذروا التسويف وطول الأمل فإن الأجل أسرع فبادروا أيها الشاردون عن ربهم ومولاهم عودوا إلى رب كريم رحيم يغفر الذنوب ويكفر الزلات ويقيل العثرات ويقبل التوبة ويضاعف الحسنات ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل فمهما عظم الذنب فرحمة الله أعظم ومهما كبر الجرم فعفوا الله أكبر ألا أن التوبة تهدم ما كان قبلها فتوبوا إلى الله وأنيبوا إليه قبل فوات الأوان .
إخوة الإيمان :
إن من الناس من يرى شهر رمضان شهر للعبادة وأن ما عداه من الشهور شهور تقصير وتفريط ومعصية ولهذا فهم في رمضان من أهل صلاة الجماعة ومن أهل قيام الليل ومن أهل قراءة القرآن ومن أهل البر والصدقة والإحسان يصون البصر ويصون السمع فإذا انتهى رمضان هدم ما بنى ونقض ما عقد وأفسد ما أصلح وهجر القرآن فلا يقرؤه إلا قليلا وهجر صلاة الجماعة فلا يشهدها أو لا يشهد منها إلا قليلاً وإذا قام إليها قام كسلاناً ثقيلاً يطلق العنان لبصره ولسمعه فلا يبالي أصرفها في حلال أم حرام يلغ في أكل الحرام وكأن ما حلَّ في اليد فهو حلال فهذا الصنف على خطر عظيم لأنهم ما فهموا حقيقة العبادة التي خلقوا لأجلها لأن الله خلق الثقلين لعبادته وأمرهم بها إلى يوم يلقونه كما قال تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال الحسن البصري : إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت .
إن هذا الصنف من الناس لم يفهم أن رمضان موسم للازدياد من العبادة والطاعة والبر ولكنه فهم أن رمضان موسم للطاعة وأن ما عداه مواسم للغفلة والتضييع والتفريط .
راجعوا أنفسكم وراجعوا فهمكم لحقيقة دينكم , راجعوا أنفسكم وتذكروا أنكم تعبدون رب رمضان ولا تعبدون رمضان وبئس القوم الذين لا يعرفون ربهم إلا في رمضان راجعوا أنفسكم وتذكروا أن العبرة بالخواتيم .
والذي يحسن في رمضان ويسيء بعده لم يختم عمله بخير وإنما يَختم بالخير من كان عمله كله خيراً لأنه متى جاء الأجل صادفه على عمل صالح فداوموا على فعل الخيرات وترك المنكرات تفوزا وتسعدوا .
معاشر المؤمنين :
إن مواسم ربنا ونفحاته ليست خاصة برمضان فلله مواسم أخرى جعلها لعباده حتى يتزودوا فيها من الصالحات ولذا شرع لهم صيام ست من شوال بعد رمضان وشرع لهم صيام الاثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ورتب لهم على صومهم الأجر والثواب الجزيل .
وينزل ربنا في كل ليلة في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فينادي عباده يدعوهم إلى التوبة وإلى الاستغفار وإلى سؤاله الحاجات وذلك في كل ليلة.
وفي يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد يدعو الله إلا استجاب الله دعاءه.
وشرع لعباده الاستكثار من الأذكار ورتب على الذكر رفع الدرجات وزيادة الحسنات وتكفير السيئات ولو كانت مثل زبد البحر .
وشرع لعباده نوافل الصدقات وقراءة القرآن وغير ذلك من أبواب الطاعة فمن شاء فليتزود فإن السفر بعيد والرحلة شاقة وخير الزاد التقوى .
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وطاعاتنا واغفر ذنوبنا وسيئاتنا وزلاتنا وتجاوز عنا .
أقول هذا القول…
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن الله شرع لعباده في ختام شهر رمضان عبادات جليلة، ومنها التكبير عند إكمال العدة، كما قال تعالى (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) فإذا رأى المسلمون هلال شوال أو أكملوا العدة ثلاثين شرع لهم التكبير في البيوت والأسواق والطرقات، حتى يحضر الإمام لصلاة العيد. فإذا أدركتم ذلك فكبروا وأحيوا هذه الشعيرة العظيمة التي هجرها كثير من المسلمين اليوم.
ومما شرع الله لعباده في ختام هذا الشهر صدقة الفطر وقد شرعت لحكم بالغة ومن حكمها:
أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث الذي حصل منه في هذا الشهر وهي كذلك شكر لله على نعمة إتمام صيام الشهر. ومن حكمها أنها مواساة للفقراء والمساكين في يوم العيد فإن الجائع لا فرحة له.
وصدقة الفطر واجبة ، وحكى بعضهم الإجماع على وجوبها، وإنما تجب على من ملك صاعاً من طعام زائداً عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم يوم العيد وليلته، والدليل على وجوبها ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة). فقوله (فرض) دليل على وجوبها لأن الفرض معناه الإيجاب والإلزام.
وتخرج صدقة الفطر من قوت البلد سواء من الأصناف المذكورة في الحديث أو من غيرها إذا كان قوت أهل البلد من غير هذه الأصناف على ما حققه ابن القيم رحمه الله.
ولا يجوز إخراجها نقوداً أو ملابس أو نحو ذلك، ومن كان فقيراً حقاً ينتفع بالطعام ولا بد.
والسبب في عدم إجزاء غير الطعام أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها من الطعام فلا تترك سنته لقول أحد، قال الإمام أحمد : لا يعطي القيمة. قيل له: قوم يقولون إن عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟ قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان، وقد قال ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من طعام .. الحديث.
وإذا كان المسلم في بلد يجبر فيها على إخراج زكاة الفطر نقوداً دفعها إليهم نقوداً ثم يخرجها سراً من الطعام، ولا يجوز له أن يبارز ولاة الأمور بالمخالفة درءاً للفتن. نص عليه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
ووقت وجوبها: غروب الشمس آخر ليلة من شهر رمضان، فمن ولد له ولد قبل غروبها أخرج عنه وكذا إذا أسلم الكافر قبل غروبها أخرجها عن نفسه، وأما إذا أسلم بعد الغروب أو ولد المولود بعد الغروب أو مات المسلم قبل الغروب فلا تلزمهم لأنهم لم يدركوا وقت وجوبها.
وتؤدى زكاة الفطر قبل الخروج لصلاة العيد لحديث ابن عمر (أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة).
ولا حرج أن تؤدى قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه حين كان حارساً على بيت الصدقة، وجاء الشيطان في صورة شيخ فقير فإنه مر عليه ثلاث ليال فدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة. وأما إخراجها أول الشهر أو وسطه أو قبل ثلاثة أيام من العيد فهذا خلاف المشروع ومن فعل ذلك أخرجها مرة أخرى في موعدها الشرعي.
معاشر المؤمنين:
إن الله جعل عيد الفطر يوماً يفرح فيه المسلمون بإتمام نعمة الصيام الذي هو رابع أركان الإسلام، كما جعل عيد الأضحى يوماً يفرح فيه المسلمون بأداء الركن الخامس من أركان الإسلام وهو حج بيت الله الحرام.
والعيد يوم فرح بنعمة الله وشكر لله، وقد شرع الله فيه لعباده صلاة عظيمة هي صلاة العيد وكثير من المسلمين يتهاون في أدائها وحضورها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بالخروج إليها حتى كان يأمر بخروج الحيض إلى المصلى فيكن من وراء الناس.
وكثير من المسلمين صيروا يوم العيد يوم لهو وغفلة ومعصية فلا يعرفون فيه إلا المعازف والأغاني وتضييع الجماعة وهذا غلط عظيم فالمعازف محرمة في يوم العيد وقبله وبعده كما ثبت في النصوص الشرعية فافرحوا في يوم العيد بفضل الله ونعمته بإتمام الصيام ولا تفعلوا ما يسخط ربكم عليكم.
ثم اعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها…