العنوان : حول مأساة غزة
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا، واستعدوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم، فالسعيد من تهيأ للرحيل فتخفف من الذنوب والزلات بالتوبة الصادقة، والاستكثار من شعب الأيمان والأعمال الصالحة.
أيها الإخوة في الله: يمر إخوتنا في فلسطين في هذه الأيام بمحنة من أصعب المحن وأقساها، وأشدها إيلاماً وأنكاها، إذ يواجهون عدواً غاشماً ظالماً لا يرقب في مؤمن إلا وذمة، سفك دماءهم ومزق أجسادهم ، واستباح ديارهم، لا يفرق بين ذكر وأنثى وصغير وكبير. في مشاهد تتفطر لها الأكباد، وتذرف لها الدموع والله المستعان.
إننا ونحن نتابع مثل هذه الأحداث المؤلمة لنبحث عن الشيء الذي يمكننا به مدُ يد العون لهم، وإبراءُ الذمة أمام الله الذي جعل المؤمنين إخوة في الدين، وشرع أن يكونوا فيما بينهم متراحمين متعاطفين، لا يخذل بعضهم بعضاً ولا يسلم بعضهم بعضاً، إننا نجد أنفسنا نحن _معشر المواطنين_ لا نملك لهم إلا الدعاء الصادق لهم، بأن يرفع الله محنتهم ويكشف غمتهم، ويحقن دماءهم ويتقبل قتلاهم، ويشفي مصابهم ومرضاهم، ويربط على قلوبهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وأن يولي عليهم خيارهم الذين يبحثون عن مصلحة شعبهم بمراعاة أحكام الشريعة وحِكَمها.
هذا الدعاء ومثله هو الذي نملكه ونستطيعه في كل ساعة من ليل أو نهار في سجودنا في أدبار صلواتنا بعد التشهد في الثلث الأخير من الليل بين الأذان والإقامة وفي غيرها من الأوقات والأحوال.
إن الدعاء سلاح عظيم لا يستهين به إلا جاهل غفل أو تغافل عن قوله تعالى (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
ونملك لهم بذل المساعدات المادية من مال وطعام ولباس وخيام عن طريق القنوات الرسمية التي تضمن وصولها بإذن الله إلى المستحقين، وتفوّت الفرصة على أصحاب القلوب المريضة بتغيير مسارها إلى جهات أخرى.
ويملك أصحاب العلم والقلم واللسان من العلماء العقلاء الناصحين أن يوجهوا النصائح الصادقة النافعة لأصحاب القرار في فلسطين والتي تعينهم على تجاوز محنتهم وتخفيف آلامهم وقد أحسنت اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة سماحة المفتي حفظه الله حيث أصدرت بياناً عظيماً في هذا الشأن نسال الله أن ينفع به.
اشتمل البيان على إظهار مشاعر والأسى والحزن والألم على ما حل بأهل فلسطين عامة وأهل غزة خصوصاً
ثم بينت أن هذا الحدث الأليم يوجب على المسلمين الوقوف مع إخوانهم الفلسطينيين ، والتعاون معهم ونصرتهم ومساعدتهم ، والاجتهاد في رفع الظلم عنهم بما يمكن من الأسباب والوسائل تحقيقًا لإخوة الإسلام ورابطة الإيمان ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ وقال ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ، وشبك بين أصابعه ) متفق عليه وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) متفق عليه . وقال عليه الصلاة والسلام (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره) رواه مسلم
ثم بينت اللجنة أن النصرة شاملة لأمور عديدة حسب الاستطاعة ومراعاة الأحوال سواء كانت مادية أو معنوية ، وسواء كانت من عموم المسلمين بالمال ، والغذاء ، والدواء ، والكساء ، وغيرها ، أو من جهة الدول العربية والإسلامية بتسهيل وصول المساعدات لهم ، وصدق المواقف تجاههم ، ونصرة قضاياهم في المحافل ، والجمعيات ، والمؤتمرات الدولية والشعبية
ومن ذلك – أيضًا – بذل النصيحة لهم ، ودلالتهم على ما فيه خيرهم وصلاحهم ، ومن أعظم ذلك – أيضًا – الدعاء لهم في جميع الأوقات برفع محنتهم ، وكشف شدتهم ، وصلاح أحوالهم ، وسداد أعمالهم وأقواله
ثم أوصى البيانُ المسلمين في فلسطين بتقوى الله تعالى والرجوع إليه سبحانه و بالوحدة على الحق ، وترك الفرقة والتنازع ، وتفويت الفرصة على العدو التي استغلها وسيستغلها بمزيد من الاعتداء والتوهين
ونصحتهم اللجنة بمشاورة أهل العلم والعقل والحكمة في جميع أمورهم ، فإن ذلك أمارة على التوفيق والتسديد .
ثم دعا البيان عقلاء العالم والمجتمع الدولي بعامة للنظر في هذه الكارثة بعين العقل والإنصاف لإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه ، ورفع الظلم عنه حتى يعيش حياة كريمة ، ثم شكر البيان كل من أسهم في نصرتهم ومساعدتهم من الدول والأفراد .
ثم دعا الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا : أن يكشف الغمة عن هذه الأمة ، وأن يعز دينه ، ويعلي كلمته وأن ينصر أولياءه ، وأن يخذل أعداءه ، وأن يجعل كيدهم في نحورهم ، وأن يكفي المسلمين شرهم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ونحن في هذا المقام نسأله سبحانه أن يتقبل هذا الدعاء وان ينفع بهذا البيان وأن يرفع الغمة ويكشف الكربة إنه سميع قريب مجيب الدعاء
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
كنا تحدثنا عما يستطيع أن يقوم به أفراد المسلمين من العامة وأهل العلم تجاه إخوانهم في فلسطين في محنتهم هذه ومر في البيان الإشارة إلى ما تستطيعه الدول الإسلامية حيث جاء فيه أن مما تستطيعه (تسهيل وصول المساعدات لهم ، وصدق المواقف تجاههم ، ونصرة قضاياهم في المحافل ، والجمعيات ، والمؤتمرات الدولية والشعبية)
فحكام العالم الإسلامي عليهم أيضاً مسؤولية النصرة والوقوف بجانب إخوانهم في محنتهم لكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، سواء بالنظر إلى الأفراد أو الحكومات فلا يطالبون بما لا يقدرون عليه. من تدخل عسكري أو نحوه
وقد أحسنت دولتنا أيدها الله بقيادة خادم الحرمين وولي عهده الأمين فأمرت بتسيير قوافل الإغاثة كما دعا خادم الحرمين إلى حملة شعبية لجمع التبرعات وهذا كله مما يساهم إن شاء الله في تخفيف المعاناة وتجاوز المحنة. نسأل الله أن يكتب أجرهم وأن يوفق حكام المسلمين لما فيه صلاح للإسلام وأهله.
أيها الإخوة:
إن من الناس من يتخذ مثل هذه المصائب فرصة لسلوك مسلك الخوارج الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم منهم أقول من الناس من يسلك مسلكهم ويمشي في إثر خطواتهم من حيث يشعر أو لا يشعر فتراه لا يفتأ يسب ولاة أمور المسلمين ويلعنهم، بل من هم من يحرض عليهم ويثير الأحقاد والضغائن في قلوب جلسائه عليهم.
وهذا كله لا يجوز بل هو من الغيبة المحرمة ومن التهييج الذي يفتح باب الفتن العظيمة، بل وينذر بكوارث مستقبلية و فتن عظيمة في مواقعَ من العالم الإسلامي وعلاج المشكلة لا يكون بفتح مشكلات أخرى.
أيها الإخوة:
لنكن صرحاء مع أنفسنا ولنعرف حدود إمكاناتنا وقدراتنا ولنتعامل مع عدونا على بصيرة وبيّنة بما عنده وما عندنا .
لقد كان الصحابة يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة أن يقاتلوا عدوهم فيأبى عليهم ويمر عليهم وهم يعذبون ويؤذون ويمتحنون في دينهم إلى درجة القتل فلا يملك لهم إلا المواساة (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وحين تكالب العدو في الأحزاب استشار النبي أصحابه من أهل المدينة في أن يتنازل عن نصف ثمار مزارع المدينة يسلمها لأحد قادة الكفر ممن جاء لغزو المدينة حتى يرجع عنها.
وفي صلح الحديبية وافق النبي صلى الله عليه وسلم على شروط ظاهرها الغضاضة والذلة والهوان على المسلمين في سبيل مصلحة حقن الدماء ومن ذلك أن يرجع بلا عمرة في تلك السنة، وأن مَن قدم المدينة مسلماً من أهل مكة فاراً بدينه يرده إليهم، ومن ارتد من أهل المدينة ولحق بقريش فلا يملك عليه الصلاة والسلام المطالبة به.. ومع ذلك وافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كله .. فنحن نذكر أنفسنا وإخواننا بمثل هذه السياسة الشرعية من النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف لأنها هي الأنسب لواقع المسلمين اليوم.
وفي الوقت نفسه على المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة والعزة وعلى رأس ذلك الرجوع الحقيقي إلى الدين بإفراد الله بالعبادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولة الاستغناء عن عدوهم اقتصاديا وعسكرياً في خطط مستقبلية جادة.
وفي ختام هذه الخطبة أنصح نفسي وإخواني بكف الألسن عن القيل والقال وبالاشتغال بما ينفع ورد الأمور إلى أهلها.
إن كثيراً من مجالسنا تضيع في القيل والقال والخوض في قضايا لا نعرف بواطنها واقعاً ولا حكمها شرعاً في جدل عقيم وخصومات منكرة تورث ضياع العمر سدى وتغير القلوب ثم نقوم عنها بخسارة دون ربح حيث لم يسلم لنا ديننا ولم تصلح قلوبنا ولم ننفع إخواننا بشيء. وهذا مما يريده الشيطان ويسعى إليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين .
اللهم إنا نسألك في هذا المقام الكريم أن ترحم إخواننا في فلسطين، اللهم ارحم ضعفهم واجبر كسرهم، وارفع محنتهم، اللهم تقبل قتلاهم واشف مرضاهم، وآمن روعاتهم واستر عوراتهم، واجمع كلمتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين فإنهم لا يعجزونك اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحداً اللهم شتت شملهم وخالف بين كلمتهم واجعلهم بأسهم بينهم وسلط بعضهم على بعض واجعلهم تدميرهم في تدبيرهم يا قوي عزيز.
اللهم أعز دينك وأعل كلمتك وانصر أولياءك واخذل أعداءك، اللهم اصرف عنا وعن المسلمين كيد الأشرار ومكر الفجار اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم آمنا في دورنا وأصح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.