العنوان : النهي عن سب الدهر و نسبة النعم إلى الخلق
أما بعد:
إن الله عز وجل خلق الله الليل والنهار فهو يقلبهما كيف يشاء، ويقضي فيهما بما يشاء، فإن الله هو الخالق والله هو المصرف والله هو المقدر والليل والنهار مخلوقان من مخلوقاته لا يملكان نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، ولا نعمة ولا نقمة، قال تعالى (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) وقال تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وقال تعالى (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار) وقال تعالى (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، فالليل والنهار آيتان من آيات الله ونعمتان من نعمه وليس لهما من الأمر شيء.
ومن اعتقد أن الليل والنهار والأيام والليالي والشهور والسنين تملك شيئاً من التأثير في المخلوقات من عند نفسها فهو كافر ملحد، وهذه عقيدة قوم حكى الله عنهم في القرآن في قوله تعالى (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) فرد الله عليهم بقوله تعالى (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) فالله عز وجل قد صرح في مواضع من كتابه أنه هو الذي يحيي ويميت وأنه الذي بيده الأمر وحده، كما قال تعالى (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير).
ولا يزال هذا الاعتقاد سائداً إلى يومنا هذا فمن الناس اليوم من ينكر وجود الله تعالى وينسب ما يجري في الكون إلى الأيام والليالي والعياذ بالله، وهؤلاء كفار كفراً أكبر مخرجاً لهم من الملة. وهكذا من اعتقد أن الدهر بيده شيء من الخلق والتدبير فهو كافر بالله مشرك به، ولو اعتقد وجود الله عز وجل. لأنه إذا اعتقد ذلك فقد اعتقد وجود خالق مع الله تعالى الله وتقدس أن يكون له شريك في ملكه قال تعالى (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً).
ومن أهل الإسلام من إذا وقعت به مصيبة لعن اليوم الذي وقعت عليه فيه المصيبة، أو سبه أو شتمه، ومن فعل هذا فقد أتى منكراً كبيراً وجرماً شنيعاً يقدح في كمال توحيده، لأن سب الدهر والزمان والأيام والليالي وشتمها شرك لفظي وهو من الشرك الأصغر، قال صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) متفق عليه. وفي لفظ لمسلم (لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله).
وفي هذا الحديث القدسي يقول الله تعالى (يؤذيني ابن آدم) أي يلحق بي الأذى، ولكنها ليست كأذية المخلوق لأن الله عز وجل لا يشبهه شيء والمخلوق قد يؤذي الخالق لكنه لا يبلغ ضره كما قال سبحانه في الحديث القدسي الآخر (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني) ففرق بين الأذى والمضرة.
وقوله (يسب الدهر) أي يشتمه ويقبحه ويلومه ويلعنه والعياذ بالله . وقوله (أنا الدهر) أي أنا مدبر الدهر ومصرفه ، وليس هذا من التأويل المذموم ولكنه تفسير وبيان، مطابق لقوله تعالى في الحديث نفسه (أقلب الليل والنهار) فهذا معنى كونه هو الدهر. فالله هو الخالق المدبر والدهر هو المخلوق المدَبَّر.
ومعنى قوله (أقلب الليل والنهار) أي أن الله عز وجل هو الذي يخلق الليل والنهار ويأتي بهذا بعد هذا وبهذا بعد هذا ويجعل أحدهما أطول من الآخر أو يجعلهما متساويين، وهو الذي يصرف الحوادث التي تقع فيهما في كل حين وآن (يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد). (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب).
وخلاصة هذا الحديث الجليل أن سب الدهر وشتمه ولعنه من الشرك اللفظي الذي يجب على المسلم تجنبه، وأن يتوب إلى الله مما قد يكون قد بدر منه، وأن يتذكر أن سبه للأيام إنما هو سب لله الذي خلق ما سب الأيام لأجله من وقوع مكروه أو فوت مطلوب. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الشرك كله أصغره وأكبره ، ظاهره وباطنه وأن يجعلنا من أهل التوحيد حقاً وصدقاً إنه جواد كريم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإذا كان شتم الزمان وسبه عند نزول المصائب محرم فإن الواجب على المسلم أن يصبر عند المصيبة حتى ينال أجر الصابرين قال تعالى (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)
وإذا صبر العبد على ما أصابه كانت تلك المصيبة نعمة في حقه لما يترتب عليها من تكفير السيئات ورفعة الدرجات.
وهكذا إذا أصابتك نعمة فلا تنسبها إلى الزمان أو إلى أحد من الخلق وإنما تنسبها إلى الله، فقد ذم الله عز وجل الذين ينسبون نعمته إلى غيره متناسين نعمة الله تعالى عليهم فقال سبحانه (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) أي ينسبونها إلى غيره.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح بالحديبية وكان قد أنزل الله المطر في تلك الليلة فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ثم قال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم؟ قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) متفق عليه.
وقال عون بن عبد الله في تفسير الآية المتقدمة: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) قال يقولون : (لولا فلان لم يكن كذا) وقال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً. ومن هذا نسبة السلامة من الحوادث إلى مهارة السائق، ونسبة الشفاء إلى الطبيب، ونحوه مما هو واقع على ألسن كثير من الناس اليوم مع كثرة ما ورد من الذم في الكتاب والسنة لمن يضيف نعم الله إلى غيره كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والأمر بنسبة النعم إلى الله لا يعني ترك شكر المحسن ومثوبته بل المحسن يشكر ويثاب ويدعى له وفي الحديث (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) وفي الحديث الآخر (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه) لكن ليس معنى شكره أن تنسب النعمة إليه فالله هو المنعم وما هذا المحسن إلا سبب أجرى الله الخير إليك على يديه.
كما أن التقرير السابق لا يمنع من إضافة الشيء إلى سببه إذا كان من باب الإخبار عن السبب وإنما المقصود به الزجر عن إضافة النعم إلى الأسباب مع تناسي المنعم بها وبأسبابها وهو الله تعالى
عباد الله:
إن الشيطان يدعوكم عند المصيبة إلى سب الدهر، وعند حلول النعمة إلى نسبتها إلى الخلق، والله عز وجل يدعوكم عند المصيبة إلى الصبر وعند النعماء إلى الشكر فاتقوا الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
ثم اعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها…
زاد الله شيخنا علما نافعا