العنوان : الخوف والرجاء خطبة مكتوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن القلوب هي ملوك الجوارح إذا صلحت صلحت الأجساد وإذا فسدت فسدت الأجساد ولذلك كانت هي محل نظر الله تعالى من العباد كما قال صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلم.
وأعمال القلوب هي الأصل الذي تنطلق منه أعمال الجوارح فمن استقام قلبه استقامت جوارحه وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه» رواه أحمد. ويؤكد هذا المعنى الحديث المتفق على صحته «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».
وإن من أجلّ أعمال القلوب الخوفَ من الله والرجاءَ في الله فالخوف من الله، ومن عذابه وسخطه، وما أعد من النكال لأهل معصيته، يقمع شهوات العبد فيحجزه معصية الله وتضييع فرائضه وانتهاك محارمه والتسويف في التوبة والإنابة والتحلل من مظالم النفس والعباد، ويقمع النفس عن الغرور بالعمل والعجب بالنفس لأنه يخاف أن لا يقبل منه عمله لنقص في نيته أو في اتباعه ولأنه لا يدري بم يختم له والأعمال بالخواتيم.
والرجاء فيما عند الله من الثواب العظيم والنعيم المقيم يزهد العبد في الدنيا الفانية والدار الزائلة ويستحثه على التزود للأخرة بخير الزاد من الإيمان والتقوى، ويشعره بالفرح بالحسنة والسرور بالعمل الصالح لأنه يترقب ما وعد الله به أهل طاعته من واسع فضله وكرمه وجوده.
كما أن الرجاء يغلق عنه باب اليأس والقنوط من رحمة الله فمهما بلغت ذنوبه كثرة أو شناعة فإنه لا يقنط ولا ييأس من رحمة الله بل يتوب وينيب ويتبع تلك السيئات بالحسنات الصالحات رجاء أن يغفر الله له وأن يتجاوز عنه وأن يتوب عليه وأن يبدل سيئاته حسنات.
والخوف المطلوب هو ما يحجز عن المعصية والمكروه والمشتبه فإذا جاوز الخوف هذه الدرجة حتى صار يأساً وقنوطاً من رحمة الله صار غلواً مذموماً وشعبة من شعب الضلال وتشبهاً بأهل اليأس من رحمة الله وهم الكفار والعياذ بالله قال تعالى {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} وقال تعالى {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
والرجاء المطلوب هو ما يحث على فعل الطاعات والتوبة من المعاصي والزلات فإذا جاوز الرجاء هذا الحد حتى صار أمناً من مكر الله وأمناً من عذاب الله وانهماكاً في معصية الله صار زيغاً وضلالاً وشعبة من شعب الكفر وخصال أهل الشرك قال تعالى {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
ولضرورة الجمع بين الخوف والرجاء كثيراً ما يقترنان في الكتاب والسنة قال تعالى مبشراً ومنذراً عباده {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} وقال تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } قال ابن كثير “قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا وَمُهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ عِقَابَهُ، ثُمَّ قَالَ مُرْجِيًا لِعِبَادِهِ لِئَلَّا يَيْأَسُوا مَنْ رَحْمَتِهِ وَيَقْنَطُوا مَنْ لُطْفِهِ: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}. اهـ
وقال تعالى {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي اعبدوه خائفين من غضبه وعذابه راجين طامعين في رحمته وثوابه.
وقال تعالى واصفاً بعض أنبيائه لنقتدي بهم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقال تعالى في صفة المؤمنين حقاً{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال “الشرك بالله، واليأس من رَوح الله، والأمن من مكر الله”. رواه البزار.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله” رواه عبد الرازق.
فتدبروا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتأملوا ما توعد الله به أهل معصيته من أنواع العقوبات العاجلة والآجلة، وما أخبر عن عقوباته التي أنزلها بالأمم الخالية لما كذبت كتبه وعصت رسله، وما وصف به نفسه من العزة والانتقام والبطش الشديد، فإن تأمل هذا الجانب مما يملأ القلب خوفاً من الله ورهبة من الله ووجلاً من الله وإجلالاً لله تبارك وتعالى.
وتدبروا كتاب الله وتأملوا ما وعد الله به أهل طاعته من أنواع الكرامات والمثوبات والإحسان في العاجل والآجل، وما أخبر به مما أكرم به أولياءه في دار الدنيا مع ما أعده لهم عند الاحتضار وفي البرزخ وبعد البعث والنشور، وتأملوا ما وصف به نفسه من الرحمة والرأفة واللطف والحِلْم والكرم والجود وسعة المغفرة والرحمة، فمن تدبرها وتأملها عظم رجاؤه في ربه وحسن ظنه بربه، وأطمأن بوعد ربه قلبُه، وانشرح لذلك صدره.
اللهم اجعلنا ممن عبدك خوفاً وطمعاً ورغباً ورهباً وأخلص لك في الخوف والرجاء والمحبة برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وصف نفسه فقال “اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم” وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومع ذلك كان يقول “أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ” صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعبدوه خوفاً وطمعاً ورغباً ورهباً فقد أخبر عن حلمه وعفوه حتى إنه غفر لزانية بشربة سقتها كلباً ليطمع المسلم في ثواب ربه ويعظم فيه رجاؤه ولا ييأس ولا يقنط من رحمته، وأخبر عن بأسه وغضبه حتى إنه أدخل امرأة مسلمة النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت كي لا يتّكل العبد على عمله. فرب حسنة يكون بها دخول الجنة ورب سيئة يكون بها دخول النار.
فلا تيأس من رحمة الله ولا تغتر بسعة رحمة الله بل كن دائماً بين الخوف والرجاء وإذا حدثت نفسك بالمعصية أو تهيأت لك أسبابها فاستحضر الخوف من الله وتذكر الوقوف بين يديه للجزاء والحساب حتى تنهى عن نفسك عن هواها، وإذا حضرتك الطاعة فاستحضر ثواب الله ومضاعفته الحسنات على الأعمال الصالحات حتى تقوم إليها نشيطاً فرحاً منبسطاً منشرح الصدر. وبذلك تكون من السعداء المفلحين قال تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} وقال تعالى{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قال ابن عباس: “خَافَ ثمَّ اتَّقى والخائف من ركب طَاعَة الله وَترك مَعْصِيَته”. وقال مُجَاهِد “هُوَ الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقَامه فينزع عَنْهَا”.
عباد الله إنه من خاف اليوم أمن غداً ومن أمن اليوم خاف غداً فخافوا اليوم ربكم واتقوا اليوم ربكم واخشوا اليوم ربَّكم حتى تكونوا يوم الفزع من الآمنين وبالجنة من الفائزين وصدقوا الدعوى بالشواهد وشاهد صدق الخوف من الله طاعته وامتثال أمره واجتناب معصيته قال صلى الله عليه وسلم «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ» رواه الترمذي. جعلني الله وإياكم ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا من أهلها إنه سميع الدعاء.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين اللهم أمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة المباركة. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فتح الله عليك شيخ علي الحدادي
جزاك الله خيرا شيخا المفضال الغالي
جزاك الله خيراشيخنا المفضال الغالي
وفقك الله يا شيخنا
جزاك اللهُ خيراً وَبَارك فيك
جزاك الله خيرا على هذا الموضوع خيرا في الدنياواﻷخرة شيخنا الفاضل