العنوان : الترهيب من أم الخبائث
( الخطبــة الأولــى )
أما بعد :
إن الله تعالى أباح لعباده الطيبات تفضلاً منه ورحمة وحرم عليهم الخبائث لطفاً منه بهم ورأفة. لما في الخبائث من الأضرار التي تعود على أبدانهم وعقولهم وأخلاقهم وطباعهم ودنياهم ودينهم من المفاسد العظيمة والأضرار الوخيمة.
قال تعالى في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم ( يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) .
وإذا ذكرت الخبائث جاءت الخمر في مقدمتها فإنها أم الخبائث ومفتاح الشرور. والخمر (ما خامر العقل) قاله عمر رضي الله عنه ، أي غطاه وستره . سواء صنعت من التمر أو الزبيب أو الشعير أو غيرها .
وقد جاء تحريم الخمر في الكتاب والسنة وأجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على تحريمها .
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة91:90)
فسمى الله تعالى الخمر رجساً والرجس الخبيث القذر . وبين أنها من عمل الشيطان أي أنه هو الذي يزينها للناس ويرغبهم فيها ويحثهم عليها ، ثم أمر باجتنابها أمراً قاطعاً فقال فاجتنبوه أي الخمر وما ذكر معه . ورتب على اجتناب الخمر الفلاح والفوز والظفر بالمطلوب وهو رضا الله والجنة .
ثم بين سبحانه جملة من أضرار الخمر وهي إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربي الخمر وهذا معروف معلوم فإنهم غالباً لا يقومون إلا متخاصمين لما يحصل منهم أثناء السكر من السباب والسفاهة ، والعدوان من بعضهم على بعض . وكذلك تورث العداوة بين شاربيها وبين من يخالطهم ويعاشرهم من أهليهم وأزواجهم وزملاء أعمالهم لأن الخمر تجعل صدورهم ضيقة يغضبون لأتفه شيء من الكلام أو التصرفات ، ويثورون من غير شيء . فيعيش من يعاشرهم معهم في نكد وخوف ، وقلق واضطراب .
ومن أضرارها أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة لأن شارب الخمر يبقى أبدا معلق القلب بها يشق عليه تركها والصبر عنها ويثقل عليه الخير ، تثقل عليه الصلاة وقراءة القرآن ومجالس الذكر والعلم وسائر العبادات لفساد قلبه وخور عزيمته وضعف إرادته .
كما أنها تصد أيضاًَ عن القيام بما أوكل إليه من الأعمال فما ظنك بمدمن خمر مؤتمن على تعليم أبناء المسلمين في مدارسهم , أو مدمن خمر مؤتمن على أموال المسلمين أو حراسة حدودهم أو إنجاز معاملاتهم . إنهم أشد الناس تضييعاً لهذه الأمانات والعياذ بالله ولهذا يكون مصيرهم إلى الفصل وكف اليد حماية للناس من خيانتهم للأمانة .
وأما ما جاء في السنة النبوية من الأحاديث في شأن الخمر فكثير ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ( كلُّ مسكِرٍ خمر، وكلّ خمر حرام ) ، ففي هذا الحديث تعريف الخمر وأنها من أي مادة صنعت فحصل بها السكر فالحكم واحد وهو التحريم .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (( لعن رسول الله في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له)) قال في الترغيب : رواته ثقات .
وفي هذا الحديث سد كل الطرق المؤدية إلى الخمر وتحريم كل صور التعاون على شربها من بداية تصنيعها إلى أن تصل إلى بطن شاربها والعياذ بالله .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ما أسكر كثيره فقليلُه حرام )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( ما أسكر الفَرَقُ منه فمِلءُ الكفِّ منه حرام )) وفي هذا الحديث أيضا تحريم تعاطي أي مقدار من الخمر ولو كانت كمية قليلة لا تسكر لأن شرب القليل يجر إلى شرب الكثير كما هو معلوم .
ولما حرمت الشريعة الخمر حرمت كل صور التعامل بها فلا تباع ولا تهدى ولا تقتنى لتجعل خلاً ولا تجعل دواء يستشفى به وإنما حكمها في الشريعة الإتلاف والإراقة لا غير .
أرادَ رجل أن يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمرًا فمنَعَه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إذًا أكارِم بها اليهود ، قال : (( الذي حرّمَها حرّم أن يكارَمَ بها )) قال : أبيعها ، قال : ((الذي حرَّمَها حرّم بيعَها))، قال : ما أفعل ؟ قال : (( أرِقها في البطحاء )) أخرجه الحميدي .
و( نهى صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ) أخرجه أبو داود والترمذي . ومن الدواء الخبيث التداوي بالخمر . وقال لطارق بن سويد عندما سأله عن الخمر فنهاه ، فقال طارق إنما أصفها للدواء فقال : (( إنه ليس بدواء ولكنه داء )) أخرجه مسلم . وفي سنن أبي داود قال : (( إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام )) .
وهكذا يحرم على المسلم أن يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ولو لم يشربها لأن مجالسة أصحابها من وسائل شربها قال صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخرِ فلا يقعد على مائدةٍ يُدار عليها الخَمر )) ورُفِع لعمرَ بن عبد العزيز رحمه الله قومٌ شرِبوا الخمرَ وبينهم من هو صائم ، قال : ( به فابدؤوا ، ألم تسمعوا الله يقول : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140])
فيا أيها المسلمون عامة ويا معشر الشباب خاصة اتقوا شرب الخمر وانأوا بأنفسكم عنها واحذروا أهلها فإنها طريق هلاك وعار ونار
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
( الخطبــة الثانــية )
أما بعد :
لما كانت الخمر بهذه الدركة من السوء رتب الله على شربها العقوبات العاجلة والآجلة أما في الدنيا فإن شاربها يحد أربعين جلدة كما كان الحال عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو ثمانين جلدة كما قضى الصحابة بذلك في عهد عمر رضي الله عنه ، فإذا تكرر شربه لها فوق ثلاث مرات فإنه يقتل عند جماعة من أهل العلم قال ابن حزم : يقتل في الرابعة . وقال شيخ الإسلام ابن تيميه : يقتل في الرابعة عند الحاجة إليه ، إذا لم ينته الناس بدون القتل . قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( وهذا عين الفقه لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قُتل فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع وصلاحه وفلاحه لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه ) اهـ .
وأما في الآخرة فعن جابر رضي الله عنهما أن النبي قال : (( كلُّ مسكرٍ حرام ، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال )) ، قالوا : يا رسول الله ، وما طينةُ الخبال ؟ قال : (( عرقُ أهل النار )) أو : (( عصارة أهل النار )) رواه مسلم
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ قال : (( كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب لم يشربها في الآخرة )) رواه مسلم . وقال : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر )) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم . وقال : (( مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن )) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح قاله في الترغيب.
ثم إن إيمان شارب الخمر على خطر فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمرَ حين يشرَبها وهو مؤمن ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (مَن شرِب الخمرَ فسكِر لم تقبَل له صلاةٌ أربعين يومًا ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن لم يتب أدخَلَه الله النار ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة ، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية )) رواه الطبراني بإسناد صحيح .
وليس معنى عدم قبول صلاته أنه يدع الصلاة بل يجب عليه أن يصلي فلو تركها لكفر ولكن لا ثواب له على صلاته عقوبة له إلا أن يتوب .
فتعاونوا أيها المسلمون على محاربة هذه الآفة الخطيرة ببذل النصح لمن وقع في براثنها وبالجد في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالتبليغ عن مروجي الخمور ومصنعيها وبائعيها ، ففي ذلك أجر وثواب ، وحماية لأبنائكم من أسباب الفساد والخراب .
ثم اعلموا رحمكم الله أن خير الحديث كتاب الله …