العنوان : قطوف من سيرة أبي هريرة رضي الله عنه
أما بعد:
فإن تذاكر سير الصالحين مما يحيى الله به القلوب وتُشحذُ به الهمم، وتُشد به العزائم، ويُسهِلُ الاقتداء بهم في الخير، وإن سادة الخلائق بعد الأنبياء والمرسلين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، إذ اصطفاهم الله واختارهم لصحبة خير خلقه فآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه وجاهدوا في الله حق جهاده ، وحفظ الله بهم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فبلغوه لمن جاء بعدهم كاملاً غير منقوص فرضي الله عنهم وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
وإن من أعلام الصحابة وساداتهم، علماً وحفظاً، وعبادة وزهداً، وسماحة وكرماً الصحابيَّ الجليل أبا هريرة رضي الله عنه.
نشأ هذا الصحابي الجليل يتيماً في حجر أمه فكان يرعى الغنم في صغره، وكانت له هرة صغيرة إذا رجع إلى البيت وضعها في شجرة وإذا أصبح حملها معه إلى المرعى فلعب بها فكناه أهله أبا هريرة فاشتهر بها حتى غلبت على اسمه واسم أبيه.
و قد شرح الله صدر أبي هريرة للإسلام فأسلم ومنّ الله عليه بالهجرة فهاجر وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر ، وقدم بأمه معه وكانت على دين قومها مشركة وكان حريصاً على دعوتها للإسلام فكلمها مرة عن الإسلام فأبت وتكلمت بكلام سيء ، فلم يقابل إساءتها بمثلها ، ولا أطفأ النار بالنار، ولكنه سلك مسلك الحكمة والرفق ، وأطفأ النار بالماء ، وتوصل إلى مراده بطلب الدعاء من رسول رب الأرض والسماء فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي وأخبره الخبر وقال : ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله (اللهم اهد أم أبي هريرة) يقول فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فلما وصل إلى البيت وإذا بالباب مغلق على غير العادة فلما سمعت حسه وصوته قالت انتظر لا تدخل وإذا هي تغتسل فلما فرغت من غسلها لبست ثيابها وفتحت الباب ثم قالت يا أبا هريرة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله يبكي لكن هذه المرة يبكي من الفرح بإسلام أمه واستجابة الله دعوة نبيه، فبشره ففرح النبي صلى الله عليه وسلم وحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً، ثم قال أبو هريرة ( يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم حبب عُبيدك هذا وأمه إلى المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين) يقول أبو هريرة فما خُلق مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. فهنيئاً لمن أحب أبا هريرة وأمه في الله جعل وعلا. فإن حبهم علامة إيمان.
وقد أحب أهلُ السنة أبا هريرة كما يحبون سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنّ أهل الأهواء والبدع يبغضون أبا هريرة بغضاً شديداً حتى بلغ الحال ببعضهم أن ألفوا الكتب في ذمه وسبه والطعن في أصله وأمانته وصدقه وديانته رضي الله عنه وأرضاه، وذلك أن أبا هريرة روى كثيراً من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تخالف ما هم عليهم من البدع والأهواء فعظم لذلك حقدهم عليه واشتد توجيه سهام كيدهم إليه.
ولما استقر أبو هريرة في المدينة لزم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة شديدة وحَبّب الله إليه حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان في الصحابة أحدٌ أشدَّ عناية وحرصاً منه على حفظه، فلم ينشغل عن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم بزراعة ولا تجارة ولا بغير ذلك من شؤون الدنيا ولما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة قال له النبي صلى الله عليه وسلم مثنياً ومنوهاً بشدة حرصه على العلم (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه) ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتا عن الدنيا قال له (ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك ؟ فقال فقلت له : أسألك أن تعلمني مما علمك الله). وهذا هو طريق تحصيل العلم إنما يكون بعد توفيق الله بالتعب والدأب وعدم الانشغال عنه بملهيات الحياة ومغرياتها فإن العلم لا ينال براحة الجسد.
وكان أبو هريرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم شديد الفقر والحاجة وكان مع ذلك صابراً محتسباً ومن المواقف التي تدل على شدة ما كان فيه ما قصّه عن نفسه فقال : أصابني جهد شديد، فلقيت عمر بن الخطاب، فاستقرأته آية من كتاب الله، فأجابني ثم دخل بيته، فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي، فقال: «يا أبا هريرة» فقلت: لبيك رسول الله وسعديك، فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي، فانطلق بي إلى رحله _ أي بيته_ ، فأمر لي بعُسّ _أي قدح كبير_ من لبن فشربت منه، ثم قال: «عد يا أبا هر» فعدت فشربت، ثم قال: «عد» فعدت فشربت، حتى استوى بطني فصار كالقِدْح.
ولما تحسنت أحواله ووسع الله عليه لم يتكبر ولم ينس ما كان فيه فقد كان يوماً لابساً ثوبين من الكتان ،حسنين ملونين، فامتخط في أحدهما فقال: بخٍ بخٍ أبو هريرة يتمخط في الكتان! وهو نوع من الثياب الجيدة ثم قال: لقد رأيتُني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة مغشيا علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع”
أيها الإخوة في الله: لقد تحمل الجهد والجوع في سبيل التفرغ لملازمة النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ حديثه _ وليس من باب الكسل وحب البطالة _ فكانت العاقبة حميدة حيث صار أكثر الصحابة رواية للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أحد منهم في الرواية ما بلغ إليه حتى وصل عدد الرواة عنه أكثر من ثمانمئة راوٍ فرضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الحديث والسنة خير الجزاء. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فقد كان أبو هريرة آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر معلماً للناس الخير، وكان يخاف أن ينشغل الناس بالدنيا عن طلب العلم الشرعي فكان يتعاهدهم بالتذكير بفضل العلم وشرفه وشدة الحاجة إليه ، فقد دخل السوق مرة والناس مشغولون بالبيع والشراء فناداهم قائلاً: «يا أهل السوق، ما أعجزكم» قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: «ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه» قالوا: وأين هو؟ قال: «في المسجد» فخرجوا سراعا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: «ما لكم؟» قالوا: يا أبا هريرة أتينا المسجد، فدخلنا، فلم نر فيه شيئا يقسم. فقال لهم أبو هريرة: «أما رأيتم في المسجد أحدا؟» قالوا: بلى، رأينا قوما يصلون، وقوما يقرءون القرآن، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: «ويحكم، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم» رواه الطبراني في الاوسط.
ومن صفاته رضي الله عنه الكرم والسخاء وإكرام الضيوف يقول الطُفاوي: “نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر، فلم أر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا أشد تشميراً، ولا أقومَ على ضيف من أبي هريرة”.
وكان حريصاً أن يكون هو وأهل بيته أهل عبادة وقيام في الليل وكان حريصاً على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وكان يبادر بها أول الشهر لأنه لا يدري ما يحدث له في آخره يقول أبو عثمان النهدي : تضيفت أبا هريرة سبعا _ أي نزلت عنده ضيفا مدة سبعة أيام _ فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثا يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا ثم يرقد ويوقظ هذا قال قلت يا أبا هريرة كيف تصوم قال أما انا فأصوم من أول الشهر ثلاثا فإن حدث لي حادث كان آخر شهري”.
وكان يجزئ ليله ثلاثة أجزاء جزءٍ لقراءة القرآن، وجزءٍ للنوم ، وجزءٍ لمراجعة حفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما أحسن ليله ونهاره.
ومع ما كان عليه من التقوى والعبادة والعلم والفضل فقد كان شديد الخوف من الله تعالى فقد بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومَهبطُهُ على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي”.
إخوة الإيمان: إن سيرة هذا الإمام الكبير سيرة واسعة مليئة بالعظات والعبر والفوائد ولكن هذه نبذة مختصرة منها أسأل الله أن ينفعني وإياكم ومن سمعها بها إنه سميع مجيب الدعاء ..
إخوة الإيمان: إن سيرة هذا الإمام الكبير سيرة واسعة مليئة بالعظات والعبر والفوائد ولكن هذه نبذة مختصرة منها أسأل الله أن ينفعني وإياكم ومن سمعها بها إنه سميع مجيب الدعاء ..