العنوان : الحث على العمل والنهي عن المسألة
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أجرى أمور الحياة على الأسباب بعد مشيئته وإذنه فجعل دخول الجنة بسبب العمل الصالح ودخول النار بسبب العمل الفاسد وحصول الولد بالنكاح وذهاب الجوع بالأكل وذهاب الظمأ بالشرب إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة .
ومنها الرزق فإن الله تعالى أمر عباده بالسعي في طلبه وشرع لهم الأسباب المباحة لاكتسابه ورغبهم فيها
ونهاهم عن الكسل والعجز والبطالة وطلب المال من الوجوه المحرمة قال تعالى : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) . وقال تعالى ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) . وقال تعالى ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) . وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) .
وقال عليه الصلاة والسلام (( كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يديه )). رواه البخاري
قال ابن حجر رحمه الله : (( الظاهر أن الذي كان يعمله داود بيده الدروع وألان الله له الحديد فكان ينسج الدروع ويبيعها ولا يأكل إلا من ثمن ذلك مع أنه كان من كبار الملوك قال تعالى : ( وشددنا ملكه) وكان مع سعة ملكه يتورع ولا يأكل إلا من عمل يده )). إ.هـ ابن علان (2/542). وداود عليه السلام ممن أمر نبينا باتباع هداه والاقتداء بفضائله في قوله سبحانه: ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان زكريا نجاراً ). رواه مسلم قال ابن علان : وهذا من الفضائل لحديث البخاري : (( أفضل ما أكل الرجل من عمل يده )). وفي الحديث : ( جواز الصنائع وأن النجارة لا تسقط المروءة وأنه صنعة فاضلة ))إ.هـ 2/543
أيها المسلمون :
ومع الحث على طلب الرزق فقد أمر المسلم بالقناعة والرضى بما قسم الله له فلا يستشرف إلى ما في أيدي الناس ولا يدعوه الحرص على جمعه على أن يطلبه من طرق محرمة . أو طرق ظاهرة الكراهة في دين الله قال عليه الصلاة والسلام : (( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً ، وقنّعه الله بما أتاه )) رواه مسلم .
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال : ياحكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى _ أي اليد المعطية خير من الآخذة _ واسمعوا ما قال وما فعل حكيم بعد ذلك.
قال حكيم : قلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئاً فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه العطاء أي حقه من بيت المال فيأبى أن يقبل منه شيئاً ثم إن عمر رضى الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم )) متفق عليه .
وقال عليه الصلاة والسلام(( اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله )) متفق عليه .
والمعنى من يستعفف عن السؤال يعفه الله أي يقضي حاجته بمال يغنيه عند الحاجة وقيل يرزقه القناعة ، ومن يستغن أي بما أعطاه الله ويرضَ به يعفه الله عن الاحتياج إلى غيره مما هو أعلى منه.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعل رزقنا كفافا حلالاً طيباً مباركاً فيه وأن يغنينا بفضله وأن يرزقنا القناعة والرضى بما قسم لنا إنه جواد كريم سميع عليم .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانيــة
أما بعد:
أما بعد فإن القناعة خلق حميد ينبغي أن يتحلى به المسلم وأن يبتعد عن سؤال الناس ما دام عنده ما يكفيه إلا في المواطن التي أذن فيها الشرع فقد أخرج مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك _ أي رجل تحمل مالاً وضمنه على نفسه في إصلاح بين متنازعين أو في دية قتلى لإطفاء الفتن أو خشية وقوعها أو غير ذلك فلا بأس أن يسأل حتى يجمع المبلغ الذي تكفل به ولو كان غنياً لأنه حق لا يجب أن يدفعه من ماله الخاص _ ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش _ أي رجل أصابت ماله آفة أهلكته من مطر أو نار أو جراد ونحو ذلك فيحل له أن يسأل الناس حتى يجد ما يكفيه _ ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانة فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش _ أي رجل أصابه فقر وحاجة شديدة بعد غنى فإذا شهد له ثلاثة رجال من قومه من ذوي الدين والأمانة و العقل بأنه قد أصابته فاقة فحينئذ تحل له المسألة حتى يجد ما يكفيه _ ثم قال عليه الصلاة والسلام : فما سواهن من المسألة ياقبيصة سحت يأكل صاحبه سحت )) رواه مسلم .
ويزاد على هذه الحالات الثلاث سؤال السلطان وهو الإمام الأعظم في الدولة الذي إليه أمر بيت المال فيجوز أن يسأله ولو كان غنياً لكن التعفف أولى لقوله صلى الله عليه وسلم المسألة كد يكد به الرجل وجهه الا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه وإن استعفف فهو أولى لحديث حكيم بن حزام المتقدم .
أيها المسلمون:
الحذر الحذر من سؤال الناس ومد اليد إليهم مع الغنى ووجود الكفاية فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم )) متفق عليه . وعن عائذ بن عمرو أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم : فأعطاه فلما وضع رجله على أُسكفة الباب قال رسول الله صلى عليه وسلم : (( لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله )). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من فتح على نفسه باب مسألة من غير فاقة نزلت به أو عيال لا يطيقهم فتح الله عليه باب فاقة )) رواه البيهقي وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أوليستكثر)). رواه مسلم
وبهذا يتبين أن المسألة من غير حاجة حرام بل الذي يظهر أنها كبيرة من الكبائر لورود الوعيد الخاص عليها والعياذ بالله وأنها من أسباب الفقر والفاقة والحاجة وأنها من أسباب الخزي والعذاب يوم القيامة فليتق الله الذين تعودوا مسألة الناس بغير حاجة وليتوبوا إلى الله وليشمروا عن ساعد الجد في طلب الحلال. وقليل مباح خير من كثير حرام