جديد الإعلانات :

العنوان : التعليقات المختصرة على حائية ابن أبي داود رحمه الله – 1

عدد الزيارات : 3628

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

 

فهذه تعليقات مختصرة على حائية ابن أبي داود رحمه الله كتبتها ونشرتها على حلقات في تطبيق الواتساب لبعض الإخوة والأحبة ثم رأيت نشرها لتعم بها الفائدة والله من وراء القصد.

 

قوله رحمه الله:

1- تمسك بحبل الله واتبع الهدى …. ولا تك بدعياً لعلك تفلح.

 

التعليق:

يوصي الناظم رحمه الله بالتمسك والاعتصام بحبل الله أي بالسبب الموصل إلى الله تعالى وإلى رضوانه وهو كتابه الكريم كما قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً  ولا تفرقوا) قال ابن مسعود وقتادة : حبل الله : القرآن. ولا يعارض هذا تفسير حبل الله بطاعة الله ورسوله أو بلزوم الجماعة فإن كتاب الله تعالى فيه الامر بلزوم السنة والتمسك بها، وفيه الأمر بلزوم جماعة المسلمين وترك مفارقتهم.

ثم أوصى الناظمُ باتباع الهدى وهو العلم النافع الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) أي بالعلم النافع والعمل الصالح.

فديننا دين اتباع لا ابتداع كما قال ابن مسعود (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وذلك أن تفاصيل العقيدة لا تدرك بالعقل والقياس والاجتهاد إنما تدرك بالوحي فمن اتبعه سلم ومن  خالفه هلك.

ولما أمر الناظم بالاتباع نهى عن الابتداع فقال رحمه الله (ولا تك بدعياً لعلك تفلح) والمبتدع هو من أحدث في الدين ما ليس منه كما قال صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها ،  فالإحداث في الدين عقيدة أو عبادة بدعة وضلالة قال صلى الله عليه وسلم (وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم من حديث جابر ، ورواه النسائي وزاد (وكل ضلالة في النار) وقال صلى الله عليه وسلم (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة) رواه أحمد وأبو داود من حديث العرباض بن سارية.

تنبيه:

لا يلزم من التكلم بالبدعة أو فعل البدعة أن يكون الفاعل أو القائل بعينه مبتدعاً فالشعبة من الكفر أو الجاهلية أو النفاق أو الفسوق قد تكون في الرجل ولا يكون بذلك كافراً ولا جاهلياً ولا منافقاً ولا فاسقا، فالحكم على المعين بذلك مرجعه أهل الرسوخ في العلم، لأنه حكم شرعي يفتقر إلى العلم بوجود أسباب الحكم وانتفاء موانعه.

ومن استقام على السنة واجتنب البدعة فقد أفلح كما قال الناظم (ولا تك بدعياً لعلك تفلح) والفلاح هو الفوز والظفر بالمطلوب وأعظم ما يطلبه المؤمن الفوز بالجنة والنجاة من النار، والفرقة الناجية من النار هي الفرقة التي تمسكت بالسنة واجتنبت البدعة كما قال صلى الله عليه وسلم عن الفرق الهالكة الاثنتين والسبعين (كلها في النار) وحكم لفرقة واحدة بالنجاة ولما سئل عنها قال (الجماعة) وفي رواية (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

وكان الزهري يقول: كان من مضى من علمائنا يقولون: “الاعتصام بالسنة نجاة”، وقال مالك بن أنس: “السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق”.

2- ودن بكتاب الله والسنن التي … أتت عن رسول الله تنج وتربح

التعليق:

يوصي الناظم باعتقاد ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو تأكيد لما تقدم في البيت الذي قبله لمزيد الاهتمام والعناية. ووصية الناظم تنطلق من النصوص الآمرة بلزوم الكتاب والسنة كما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقوله تعالى (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون). وقوله صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله) وقوله صلى الله عليه وسلم (فمن رغب عن سنتي فليس مني).

وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله، واجبة الاتباع كما قال تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال صلى الله عليه وسلم (ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه..)   رواه أبو داود، ورواه الترمذي بلفظ : (ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله). فيجب قبول السنة والتزام ما جاء فيها فتُصدَّق أخبارها وتُلتزم أحكامها، ولا يجوز رد شيء من السنة الثابتة الصحيحة بدعوى مخالفتها لظاهر القرآن، أو بدعوى مجيئها بطريق الآحاد، أو بدعوى ظنية ثبوتها أو حجيتها. أو لمخالفة مذهب الإمام المتبوع ونحو ذلك من المعاذير التي يرد بها أعداء السنة ومن تأثر بهم كثيراً من السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عمر بن عبد العزيز: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس . وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم.

وافتتح المؤلف منظومته بالوصية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهما هما مصدر الدين وعليهما يبنى الاعتقاد فالعقيدة ليست مسرحاً للاجتهاد والآراء والأفكار إنما هو التلقي والفهم والاتباع فقط.

3- وقل غير مخلوق كلام مليكنا … بذلك دان الأتقياء وأفصحوا

التعليق:

أي اعتقد بأن الله تعالى يتكلم متى شاء بما يشاء كلاماً حقيقياً بحرف وصوت يسمعه من شاء من خلقه كما قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]. وقال تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] . وقال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) [آل عمران: 55] وقال تعالى : (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) [مريم: 52] وقال تعالى (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 104، 105]   وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” يقول الله تعالى: ” يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟، قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ” وقال ابن مسعود: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت، عرفوا أنه الحق ونادوا» : {ماذا قال ربكم قالوا الحق}. أخرجه أبو داود ، وأخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم. والنصوص في إثبات القول والكلام والحديث والنداء والمناجاة لله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها.

واعتقدْ أيضاً أن كلام مليكنا جل وعلا غير مخلوق ، لأن الله تعالى غير مخلوق ، وكلامه صفته فهو غير مخلوق، خلافاً للذين يزعمون أن الله يخلق كلامه في اللوح أو في الشجرة أو في جبريل أو في محمد صلى الله عليه وسلم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

فإن من نفى عن الله صفة الكلام فقد تنقّص الله تعالى من حيث يعلم أو لا يعلم لأن الذي لا يتكلم لا يصلح أن يكون رباً آمراً وناهياً ومُشرّعاً  وإلها معبوداً ودليل ذلك أن بني إسرائيل لما عبدوا العجل ردّ الله عليهم بأن العجل لا يصلح أن يكون إلها وكيف يكون إلهاً وهو لا يتكلم قال تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]) وقال تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 88، 89]

ومن نفى عن الله صفة الكلام فإنه يلزم على قوله إبطال الشريعة كلها لأنها أمر الله ونهيه، وأمره ونهيه كلامه سبحانه وتعالى فإذا كان لا يتكلم فلا أمر ولا نهي إذن.

ومن نفى عن الله صفة الكلام يكون لازم قوله أن الشجرة هي التي قالت (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه: 14] ويكون اللوح أو جبريل عليه السلام أو محمد صلى الله عليه وسلم هو القائل (أنا ربكم فاعبدون).

فعلى المسلم أن يعتقد ما اعتقده السلف الصالح من أن الله يتكلم حقيقة وأن كلامه صفته ليس بمخلوق، وأنه مع ذلك ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء من خلقه ولا يشبه شيئاً من خلقه (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).

واعتقدْ أيضاً أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود. فدليل كون القرآن كلامه تعالى قوله عز وجل (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)

ودليل كونه منزلاً غير مخلوق قوله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين)

ودليل كونه منه بدأ أي تكلم به سبحانه وسمعه من جبريل فنزل به إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم يأخذه جبريل من غير الله قوله جل جلاله (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام: 114] وقوله تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].

ودليل كونه يعود إليه أي يقبض من الصدور والقلوب ويمحى من المصاحف والكتب فيرفع إلى الله حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية) أخرجه ابن ماجه وقال البوصيري إسناده صحيح.  وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة مثله، وقال ابن مسعود : «إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم» ، قال: قلت: كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟، قال: «يسرى عليه في ليلة واحدة، فينزع ما في القلوب، ويذهب ما في المصاحف، ويصبح الناس منه فقراء» ، ثم قرأ {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف.

4- ولا تكُ في القرآن بالوقف قائلاً          كما قال أتباع لجهمٍ وأسجحوا

التعليق:

أي احذر من الوقف في مسألة خلق القرآن، والواقفة ثلاثة أصناف :

منهم من قالوا: نقول القرآن كلام الله ونقف فلا نقول مخلوق ولا غير مخلوق ، قالوا ذلك تقية وإخفاء لحقيقة مذهبهم الجهمي.

ومنهم من يعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، ولكنه يقف عند قوله القرآن كلام الله من باب الورع لا يحب أن يزيد على ما أثره عن السلف ممن مضى قبله، وهؤلاء ينكر عليهم سكوتهم لأن من مضى لم يحتاجوا إلى إضافة (غير مخلوق) لأنهم لم يُبتلوا بهذه المسألة أما بعدما قام المقتضي لها ووجدت الحاجة إليها فلا ينبغي السكوت عنها بل المتعين الجهر بإثبات تنزيله والجهر بنفي خلقه.

ومنهم من وقف جهلاً بالمسألة فهذا عليه أن يتعلم ويسأل أهل الذكر كما أمر الله تعالى في قوله (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وفي هذه الأصناف الثلاثة قال الإمام أحمد رحمه الله : «من كان يخاصِم ويُعرف بالكلام فهو جهمي، ومن لم يُعرف بالكلام يجانب حتى يرجع، ومن لم يكن له علم يسأل» سمعه ابنه عبد الله كما في السنة (1/179).

5- ولا تقل القرآن خلقاً قرأته …. فإن كلام الله باللفظ يوضح

التعليق:

أي لا تقل لفظي بالقرآن مخلوق ، ولا تقل أيضاً لفظي بالقرآن غير مخلوق، لأن القائل (لفظي بالقرآن مخلوق)  إن قصد صوته وحركة لسانه فالمعنى صحيح، وإن كان يقصد الكلام المتلو فهذا باطل وهذا هو مذهب الجهمية.

والقائل (لفظي بالقرآن غير مخلوق) إن قصد الكلام المتلو فالمعنى صحيح، وإن قصد صوته وحركة لسانه فهو باطل لأن معناه أن هذا هو عين تكلم الله جل وعز _تعالى الله عن ذلك_.

والقاعدة عند السلف في هذه المسألة : ” أن الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري” فلا بد من التفريق بين الأمرين.

فاشتملت الأبيات الثلاثة على ما يلي:

تقرير كون القرآن كلام الله منزلاً غير مخلوق، والتحذير من مذهب الواقفة الذين يقولون لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، والتحذير من إطلاق هذه الجملة وهي لفظي بالقرآن مخلوق ، أو لفظي بالقرآن غير مخلوق لأنها تحتمل حقاً وباطلاً ، واللفظ إذا احتمل معنى صحيحاً ومعنى باطلاً ولا سيما في الاعتقاد تعين اجتنابه والله أعلم.

قوله :

6- وقل يتجلى الله للخلق جهرة … كما البدرُ لا يخفى وربك أوضح

7- …………………….. # ……….. (سيأتي شرحه)

8- وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا … بمصداق ما قلنا حديث مصرح

9- رواه جرير عن مقال محمدٍ … فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح

التعليق:

يقرر الناظم رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية ، والتي تتلخص في أن المؤمنين يرون ربهم بأعينهم من فوقهم كما يرون القمر في وضوحه ليلة البدر ليس دونه حجاب ، وكما يرون الشمس صحوا لا سحاب دونها.

والأدلة على الرؤية كثيرة متنوعة ، فقد دل عليها القرآن والسنة المتواترة وإجماع السلف فمن أدلة القرآن :

1- قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة ) أي وجوه أهل الجنة نضِرة من النعيم كما قال تعالى (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) وقوله (إلى ربها ناظرة) أي تنظر إلى ربها نظراً حقيقياً بعيونها التي في وجوهها.

وأما تفسير منكري الرؤية _من الجهمية ومن سلك مسلكهم _للنظر هنا بمعنى الانتظار وأن المعنى تنتظر ثواب ربها فهو تفسير مردود لغة وسياقاً وشرعاً، أما من حيث اللغة فإن النظر إذا عدي بإلى لم يكن معناه الانتظار بل يكون معناه الرؤية بالبصر كقوله تعالى (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) وكقوله تعالى (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يستنه) (وانظر إلى حمارك) (وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما) وكقوله تعالى (ولكن انظر إلى الجبل).

وأما إذا أريد بالنظر الانتظار والتربص فإنها تعدى بنفسها بدون حرف الجر كقوله تعالى (انظرونا نقتبس من نوركم) (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة).

وأما السياق فهو سياق امتنان وإكرام، وتأخيرُ النعمة عن صاحبها وإحواجه إلى الانتظار والتربص تعذيب وإيلام وليس بإكرام.. وتمام النعمة إنما يكون بتعجيلها لأهلها.

وأما من جهة  الدليل الشرعي فقد  جاءت الأدلة الشرعية _ ومنها ما سيأتي ذكره قريباً _ مثبتة للرؤية مصرحة بها فلا وجه لإنكارها وتحريف معاني النصوص الواردة في شأنها.

2- قوله تعالى عن الكفار: ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) .

وجه الدلالة من الآية :-

أنه لما حجب الكفار عن رؤيته دل على أنه سيتفضل على المؤمنين برؤيته، وإلا لما كان لهذا النفي فائدة فإنه يقال : والمؤمنون أيضاً عن ربهم محجوبون فما فضل المؤمنين على الكافرين من هذه الحيثية؟ .

3- قال تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه إلى الجبل جعله دكاً ) الآية .

وجه الدلالة من الآية :-

1_ أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يراه، وموسى أعلم بالله من أن يطلبه ما يستحيل ويمتنع عليه ، ولا يصلح له.

2_أن الله عز وجل لم يقل يا موسى إني لا أُرى ولكن قال ( لن تراني ) وبينهما فرق عظيم.

3_ أن الله عز وجل لم يخطّئ موسى عليه السلام فيما طلب ولو كان سؤاله غير لائق بالله عز وجل لأنكر عليه كما أنكر على نوح عليه السلام حين سأله عن ابنه الكافر فقال له : (فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)

4_ أن المانع لموسى من رؤية الله تعالى في الدنيا هو ضعف الخلقة البشرية عن تحمل رؤية الله، وليس المانع أن الله عز وجل لا يُرى ولهذا علّق الله إمكان رؤية موسى لربه على استقرار الجبل لرؤية الله إذا تجلى له فلما تجلّى الله للجبل جعله دكّاً والجبل أقوى من موسى فإذا ضعف الجبل عن رؤية الله كان موسى أولى بذلك..

5_ أن الله جل وعلا علق رؤية موسى عليه السلام لربه على تحمل الجبل لرؤية الله إذا تجلى له ، والله قادر لو أراد أن يجعل في الجبل تلك القوة ، وتعليق حصول الشيء على أمر ممكن دال على إمكان حصول ذلك الشيء وعدم استحالته. كما لو قيل (إذا قرأت هذا الكتاب في ساعة فهو لك) فعُلِّق التمليك على أمر ممكن في نفسه وهو القراءة في ساعة وإن كان الشخص نفسه قد لا يمكنه ذلك لمانع.

6_ أن معنى قوله سبحانه (لن تراني) أي في الدنيا ، لأن (لن) تفيد النفي دون تأبيد وتأكيد كما نص على ذلك أئمة النحو ومنهم بن مالك في الكافية الشافية _ وهي غير الألفية_ فقال:

ومن رأى النفي بلن مؤبدا .. فقوله اردد وسواه فاعضدا

 

ومما يدل على أن لن لا تفيد التأبيد أن الله قال عن اليهود (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً ) ثم أخبر عن أهل النار فقال (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) ولو كانت للتأبيد لما صح أن تقول مريم (فلن أكلم اليوم إنسياً) لأنه يتناقض التأبيد مع التوقيت بيوم.

ومن أدلة السنة :

1- عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة – يعني البدر – فقال: «إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39] ، قال إسماعيل بن أبي خالد : «افعلوا لا تفوتنكم». متفق عليه.

2-  عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري: أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تضارون في القمر ليلة البدر؟» ، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فهل تضارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟» ، قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فإنكم ترونه كذلك» متفق عليه.

3- عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه» متفق عليه.

4- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما، وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» متفق عليه.

5-  عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل “رواه مسلم.

وقول الناظم: ( كما البدر لا يخفى وربك أوضح ) يشير بذلك إلى الأحاديث الصحيحة التي تقدم بعضها في رؤية المؤمنين لربهم، وقد نص أهل العلم على أن التشبيه في الحديث إنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية ، وليس تشبيه المرئي بالمرئي ، أي أن رؤية المؤمنين لله كرؤيتهم للقمر وليس المعنى أن الله كالقمر تعالى الله أن يشبهه شيء من خلقه، قال تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).

نسأل الله أن يثبتنا على السنة وأن يدخلنا الجنة وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم.

7- وليس بمولود وليس بوالد … وليس له شبه تعالى المسبَّح

التعليق:

يقرر الناظم رحمه الله نفي الولد والوالد عن الله جل وعلا كما  قال سبحانه وتعالى   (لم يلد ولم يولد) فلم يتولد منه شيء ، ولم يتولد من شيء فهو الواحد الأحد  لا شيء يشبهه ولا شيء مثله. وذلك لكمال غناه سبحانه وتعالى.

وبدأ سبحانه بنفي الولد قبل نفي الوالد اهتماماً به لأنه الأكثر الأشهر في ادعاء المشركين والكفار فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال مشركو العرب الملائكة بنات الله.  وأما نسبة الوالد إليه فهي نادرة حتى قيل إنه لم يدّعِها أحد.

وقد نفى الله تعالى عن نفسه الولد والصاحبة في مواضع كثيرة ومنها قوله تعالى (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة..) أي زوجة. وفيها تكذيب لمن ادعى لله الولد ، وتكذيب لمن ادعى لله الصاحبة فإنهم قالوا إن أمهات الملائكة بنات سروات الجن تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً ولذا رد الله عليهم بقوله (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ، ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون)

ونسبة الولد إلى الله جرم عظيم توعد الله معتقديه بأشد العذاب فقال سبحانه وتعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 – 93].

وإذا كان حصول الولد كمالاً في حق المخلوق فإن نسبته لله تنقص له لأن المخلوق محتاج إلى الولد يتقوى به من ضعف ويتكثر به من قلة ويستعين به ويتجمل به أما الله تعالى فهو الغني بذاته عما سواه.

ولأن نسبة الولد إليه يستلزم أن يتقدمه أن يكون له زوجة وما يكون بين الزوجين تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً.

لذا ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليس أحد، أو: ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم ” متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أراه قال الله تعالى: يشتمني ابن آدم، وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولدا، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني ” رواه البخاري.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً» رواه البخاري.

فعلى المسلم أن يعتقد في ربه أنه الأول الذي ليس قبله شيء ولا شيء مثله وأنه الصمد الذي لم يلد ولم يولد وإذا وسوس له الشيطان فقال له: مَن خلق الله؟ أو من أين أتى الله؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي يقذفها الشيطان للتشويش والتشكيك فليتعوذ بالله من الشيطان وليقطع هذه الوساوس كما ثبت عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خَلَقَ اللهُ الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله ” رواه مسلم .  وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله ولينته ” رواه مسلم أيضاً.

نسألك اللهم هداية تهدي بها قلوبنا ، وتعصمنا بها من كل سوء ، وإيمانا ويقينا ليس بعده كفر.

يتبع.

One comment

  1. بلغيث احمد سعيد القرني

    جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل ونفع بك الاسلام والمسلمين

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *